أي مستقبل '' مظلم '' لتيار الوسطية؟
صحفي وباحث مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
من أكثر القضايا التي تحتل رأس الأجندة الإسلامية، الرسمية والحركية، قضية الوسطية. ويمكن تلمس ذلك من التدفق الغزير، والمبالغ فيه أحيانا، لخطابات الوسطية أو من قدر الفعاليات التي تعقد – رسميا وغير رسمي – حول الوسطية أو من عدد المؤسسات التي ظهرت سريعا تحمل فكر الوسطية وتدعو له.
يكفي القول أنه في الشهور القليلة الماضية تأسست في ثلاث عواصم عربية نشطة ثقافيا وفكريا ثلاث مؤسسات تتبني مشروع "الوسطية" وتدافع عنه: منتدى الوسطية في عمّان الذي أسسته مجموعة إسلامية تنتمي لحزب الوسط الإسلامي الأردني، ومركز دراسات الوسطية في الكويت الذي يتبع وزارة الأوقاف الكويتية ويرأسه الدكتور عصام البشير وزير الأوقاف السوداني السابق، ومركز الوسطية بالقاهرة ويشرف عليه المصريان عبد الحليم عويس وصلاح الصاوي الداعية السلفي مؤسس الجامعة الأمريكية المفتوحة!.. وكلها نشأ في فترة سريعة جدا بما يستدعي التوقف عند هذا الموضوع..لماذا هذا الحضور؟ وفي أي سياق ؟ وعلي أي أرضية؟
ظهر خطاب الوسطية في السبعينيات وكان من أعلامه المشايخ والأساتذة: محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وسليم العوّا وعبد الحليم أبو شقة وجمال الدين عطية ومدرسة مجلة المسلم المعاصر..ثم لحق بهم الأساتذة طارق البشري ومحمد عمارة وفهمي هويدي..وهم من مثّلوا ما صار يعرف بتيار الوسطية الإسلامية الذي نشأ كرد فعل علي مشكلة الغلو والتطرف الديني التي استفحلت في هذه الفترة.
كان العالم العربي- في هذه اللحظة- يشهد نمو حركة إسلامية شابة فتية لديها ميل نحو التطرف والغلو بحكم تكوينها التلقائي العاطفي ونشأتها الفطرية غير المنظمة أو المخطط لها وضعف تكوينها الفكري والشرعي وحداثة أعمار قادتها ومنتسبيها الذين كانوا بلا شيوخ أو مرجعيات ثم – أخيرا- بحكم طبيعة قاعدتها التي غلبت عليها الجماهيرية والشعبوية التي كانت تصب لجهة غياب المراجعة والقدرة علي ضبط المسار.
كان ظهور خطاب الوسطية وتيارها آنذاك يمثل استجابة حقيقية لمشكل بل ومأزق واقعي تعيشه الأمة، فقد كانت تواجه حالة صحوة إسلامية أقرب للعشوائية نازعة للتشدد علي مستوي الأفكار أو الممارسة الاجتماعية أو رؤيتها للعالم وللآخر وتصورها للعلاقة معه، ذلك في الوقت الذي كانت تواجه، علي طرف النقيض، تيارا علمانيا لا يقل تطرفا وغلوا في سعيه لسلخ الأمة عن تراثها ودينها وإدخالها- قسرا- في منظومة فكرية وثقافية مفارقة تماما للمنظومة الإسلامية
عاني تيار الوسطية ورموزه، وقتها، نزق المخالفين من الغالين والجاهلين والمبطلين، ولاقي الأمرّين من التطرف الإسلامي والعلماني علي السواء، وكانت مدرسة " الوسطية " اقرب إلي قيادة ماهرة وناضجة للمشهد الإسلامي تعمل علي إدارته لجهة مسار الاعتدال والتوسط والابتعاد عن الغلو والتطرف علي الجانبين؛ الإسلامي أو العلماني.
وطوال ربع قرن أو يزيد هي عمر تيار الوسطية المعاصر جدت أمور ومتغيرات وجرت مياه كثيرة بما يدفعنا إلي التساؤل: ما مستقبل تيار الوسطية؟ وهل ما زالت الوسطية تمثل استجابة حقيقية لواقع المشهد العربي الإسلامي الراهن؟
للإجابة علي هذا التساؤل من المهم أن نفهم السياق الذي تتحرك فيه فكرة الوسطية في طرحها الجديد وما إذا كانت تشتبك مع نفس الأجندة والاهتمامات التي كانت قبل عقدين؟ أم تغير الأمر وهو ما نجزم به؟
أتصور أنه لم يعد هناك تطرف ديني بالمعني الذي كنّا نعيشه من قبل بما استدعي الرد بظهور تيار الوسطية، وأن الحالة الإسلامية شهدت تطورا نوعيا لجهة الاعتدال علي الأقل في البعد الاجتماعي حتى ولو لم يسنده تنظير فكري معتبر. فقد تراجعت تيارات التكفير والعنف إلي حدها الأدنى، وتخلص منها التيار العام في الحالة الإسلامية بعدما كانت تكتنفه ويتلبسه مزاج أو نزعة تكفيرية عنفية تظل أقرب إلي الخلايا السرطانية تحتاج إلي لحظة مواتية لتتفشي وتنقلب تكفيرا معلنا وعنفا فعليا. انسحبت تيارات التكفير والعنف خارج الجسم الرئيسي للحركات الإسلامية ذات المشروع والامتداد الاجتماعي والسياسي في بلدانها وانتقلت- كما في حالة تنظيم القاعدة- إلي تخوم العالم الإسلامي وهوامشه علي نحو ما يرصد بدقة الفرنسي جيل كيبيل، وصارت تيارات أقرب إلي تيارات معولمة أو -علي الأدق -مناهضة للعولمة تتبني أفكارا ثورية انقلابية تشغل العالم دون أن يكون لها تأثير في الواقع السياسي والاجتماعي علي الأرض علي نحو ما يرصد الفرنسي أيضا أوليفييه روا.
لم تعد لأفكار التطرف والغلو وجود فاعل في الحالة الإسلامية العامة علي غير ما كان قبل ربع قرن، وصار الاعتدال سيد الموقف إن في السلوك الاجتماعي الذي اقترب فيه الإسلاميون من المزاج العام للشارع، أو في المشروع السياسي الإسلامي الذي تكيّف تماما مع مشروع الدولة الوطنية القطرية.. بل أكاد أذهب إلي أن الإسلاميين- أو التيار العام داخلهم- صاروا أكثر اعتدالا من الشارع الإسلامي نفسه حتى في القضايا ذات الإسناد الإسلامي علي نحو ما رأيناه أخيرا في أزمة الرسوم الدنمركية التي ثبت أن الشارع كان فيها سابقا علي الإسلاميين وأكثر تشددا منهم في التعاطي مع القضية.
لكن تراجع بريق أفكار التطرف الديني وجاذبيتها واكبه تصاعد لمزاج أو حالة تطرف في الشارع العربي قد ترتدي مسوحا إسلامية وتنطق بشعارات دينية غير أنها لا تستمد تطرفها من أفكار أو أطروحات دينية بقدر ما تنهل من مناخ بالغ السوء يدفع بها دفعا إلي أحضان التطرف. ففي مواجهة تراجع المشروع القومي وانهياره وتراجع مشروع حركات الإسلام السياسي واستيعاب القطاع الأكبر منها في مشروع الدولة القطرية، وفي مقابل انهيار الدولة الوطنية الحديثة في مستنقع فساد واستبداد وفشل أدي إلي تآكل ما أنجزته وتبخر ما وعدت به، وكرد فعل علي الحملة الأمريكية الاستعمارية التوسعية وغطرسة القوة الصهيونية وعربدتها من دون رادع عربي أو دولي بل وتمترسها حول حماية غربية أمريكية..بمواجهة ذلك كله تغير مزاج الشارع العربي الإسلامي فانقلب إلي مزاج من التشدد والغضب غير المسبوق...إنه مزاج "قاعدي" بامتياز!
أخشي أن النخب الإسلامية التي تصدرت " الوسطية" محور أجندتها واهتماماتها وصارت تتسارع فيما بينها علي اقتسام "تركة" الوسطية انفصلت تماما عن شارعها العربي والإسلامي الذي اختار طريقا آخر غير طريق الوسطية، أو ربما – وهو الأدق- أعاد تعريفها بنفسه فأعطاها معاني تتجاوز تلك التي كانت تعنيها في حقبة سابقة.
ما يجب أن تدركه النخبة الإسلامية أن السياق الذي ظهرت فيه مدرسة الوسطية قد تغير تماما وأن الأسئلة التي كانت تجيب عليها فيما مضي تغيرت وصارت إجاباتها محل نظر
السؤال الحقيقي الآن لدي الشارع العربي الإسلامي عاد مجددا سؤال الاستقلال الوطني الذي تأكد أن الدولة الوطنية دولة ما بعد الاستقلال لم تجب عليه كاملا، سؤال الاستقلال الوطني لجهة العلاقة مع الأجنبي والموقف منه خارجيا، ولجهة مقاومة الاستبداد والفساد داخليا. وكلاهما لا يحتمل استحضار وسطية ما قبل ربع القرن فضلا عن الإفراط فيها ! بل ربما جعل الحديث فيهما مشكوك فيه.
تيار الوسطية يحتاج إلي وقفة مراجعة، فالوسطية بمعناها الذي كان وفي هذا التوقيت صارت تعني - في الشارع العربي الإسلامي- الاستسلام للإرادة الأمريكية والكف عن المقاومة...والاستسلام لأنظمة مستبدة وفاسدة استنفذت شرعيتها وشرعية الدولة التي أسستها حقبة ما بعد الاستقلال.