السياسي المحير
شخصية «آسرة» بلا شك، «مثير للجدل»، «حيوي»، «متجدد»، أما بطاقة التعريف فتصيبنا بالدوار: تحصيل أكاديمي رفيع في القانون وخلفية صلبة في الفقه والشريعة، أما التجربة السياسية الممتدة من ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم، فهي صاخبة لا حدود لصخبها.
يمكن تقديم حسن الترابي بمثل هذه الكلمات والأوصاف دون مشقة، لكن ودون مشقة أيضا ستجد النقيض، فالترابي هو من ذلك النوع من الأشخاص الذين ينقسم الناس حولهم إلى نقيضين: مبجل وملعون في آن واحد.
ان التعرض للهجمات والنقد المرير واللاذع ليس جديدا على الترابي، لكن ضراوة الهجوم على الترابي الآن تأتي من الإسلاميين بعد تصريحاته التي اعتبرت خروجا على المألوف والسائد. إمامة المرأة للصلاة، عدم قتل المرتد وتأييد انتخاب مسيحي أو امرأة لرئاسة السودان، كلها عناوين أخذت تتدافع في الآونة الأخيرة على لسان الترابي.
وعلى صفحات الجرائد. تصريحات فيها من الجرأة ما يكفي لكي تستثير ضده أبشع ردود الفعل التي يخشاها من يوصف بأنه مفكر إسلامي لدى الإسلاميين، والراعي الأول للأصوليين في نظر الولايات المتحدة و«مرحلة لا يجب التوقف عندها حسب رفاقه في الجبهة الإسلامية القومية» مثلما يرى حسام تمام. (حسام تمام، حسن الترابي.. حين يغرق المفكر في بحور السياسة ـ موقع إسلام اون لاين ،12 يونيو 2006). أن آراء الترابي الأخيرة تداعب خيال الكثيرين حتى من خصومه وتبدو متسقة مع جملة مفردات باتت شائعة ضمن خطاب الإصلاح المتداول منذ بضعة أعوام.
لكن الترابي لم يوصف في يوم بأنه إصلاحي رغم اجتهاداته العديدة فيما خص الفكر الإسلامي. وهذه الصحوة التي تبدو متأخرة تطرح تساؤلا عما إذا كانت هذه الأفكار والرؤى التجديدية التي يطرحها الترابي الآن هي وليدة إعادة قراءة أم أنها أفكار ظلت حبيسة لدى الترابي منذ فترة.
فالترابي لم يبرهن في يوم على انه يؤثر التسامح على التمسك بالسلطة، أو يميل لفقه الشعب والمجتمع أكثر من برنامج شامل يمتلكه هو أو حزبه الذي يقوده في مرحلة ما.
فعندما تحالف مع النميري وأقنعه بتطبيق الشريعة عام 1983، لم يتردد في إعدام محمود محمد طه زعيم الإخوان الجمهوريين، الصوفي الذي لم يكن ليشكل أي خطر. أما تسامحه الأخير حيال ارتقاء مسيحي إلى رئاسة الجمهورية في السودان، فيقابله في سجل الترابي تعصب ومكابرة كلفت السودان أثمانا باهظة عندما سير حملات «صيف العبور» العسكرية لقتال الجنوبيين في سنوات حكم الإنقاذ الاولى مطلع التسعينيات.
لقد أزهقت تلك الحملات أرواح آلاف من السودانيين وأخرت حل الحرب إلى أن جاء الحل وتجاوز تلك المكابرة التي ميزت بها السنوات الأولى لحكم الإنقاذ التي كان فيها الترابي رجل النظام الأول.
إن الترابي هو من ذلك النوع من الزعماء الذين يملكون رؤية وبرنامجا خاصا بهم، لقد برهن على هذا في سنوات الإنقاذ الأولى عبر برنامج «الاسلمة»، إعادة صياغة شاملة للمجتمع والدولة لكنه توقف مع انقلاب تلاميذه عليه عام 2000.
لعل هذا لا يجعل لآراء الترابي أي تأثير الآن لان تجربته أفقدته الكثير من المصداقية. فآراؤه لم تثر أي جدل إلا في أوساط الإسلاميين ورفاقه القدامى، لكنها بلغت حدا بالغ الخطورة مع الاتهامات التي راحت تتكرر: مرتد وزنديق.
لقد طالب الكثير من هؤلاء باستتابة الترابي وآخر الدعوات هي تلك التي أطلقتها هيئة علماء السودان يوم 6 يونيو الجاري معتبرة إياه «مارقا وزنديقا».
وإذ يعتبر كثيرون إن لدى الترابي ما يجعله صاحب رؤية وقراءة إسلامية خاصة، فان هذه الرؤية باتت تثير الفزع في معسكر الإسلاميين أكثر من غيرهم، بل انها بلغت مستوى عال من الخطورة: «بروتستانتية إسلامية على غرار بروتستانتية مارتن لوثر» حسب ما يرى محمد المهدي البشير. (التجديد الذي يريده الترابي: اغتصاب للشريعة وليس اجتهادا فيها - مجلة «العصر» على شبكة الانترنت، 29 مايو 2006).
يبدو الترابي وفق هذا التصنيف باعتباره صاحب رؤية خاصة قريب الشبه من مارتن لوثر، لولا أن فارق التجربة بين الرجلين وانغماس الترابي الطويل في العمل السياسي ومكائد العمل السياسي لا يؤهله لأن يكون مصلحا على غرار لوثر.
إن التصريحات الأخيرة للترابي حول إمامة المرأة وجواز زواج المسلمة بكتابي وتأييده لانتخاب مسيحي رئيسا للسودان تهز وبعنف قراءة ظلت متوارثة للإسلام. لكن هذه الجرأة لم تدفع بالترابي لان يكون موضع إجماع مهما كان مستواه وحجمه حتى الآن وليس من المتوقع أن تفعل في المستقبل القريب. فالترابي حسب الباحث الرصين حسام تمام في مقاله المشار إليه آنفا، أصبح "عبئا ثقيلا يود الجميع التخلص منه".
وحسب تمام "فالحكومة ترى انه لا وجود للاستقرار مع الترابي، والمعارضة تفضل نار الحكومة على جنته، ودول الجوار تحمله مسؤولية كل أزماتها مع النظام السوداني، والولايات المتحدة الأميركية تعتبره الراعي الأول للأصولية في العالم، والحركات الإسلامية تعتبره خارجا عليها، حتى الجبهة الإسلامية التي صارت قياداتها التاريخية تعتبره مرحلة لا يجب التوقف عندها كثيرا".
لقد ظل الترابي بحيويته الفائقة وقدرته على عبور المراحل ومفاجأة خصومه شخصية محيرة على الدوام، وهو إذ برهن على براغماتية غير معتادة، فان آراءه هذه التي تداعب آمال الإصلاحيين العرب لا تبدو إنها ستسعفه كثيرا لا لأنها غير موثقة في كتاب مثلا بل لأن سجله الطويل والحافل لا يشفع له.
جريدة الغد الاردنية
عن البيان الإماراتية