منهجية مختلفة في دراسة الإخوان المسلمين
يقول المثل الإفريقي "ستظل قصص الصيد تمجد الصيادين إلي أن تجد الأسود من يؤرخ لها"،وهو المثل الذي سيظل حاضرا معك بامتداد صفحات كتاب "تحولات الإخوان المسلمين..تفكك الايدولوجيا ونهاية التنظيم" الصادر عن مكتبة مدبولي للنشر، لمؤلفه حسام تمام الباحث في شئون الحركات الإسلامية.
.الكتاب يضم مجموعة من المقالات والدراسات والحوارات الصحفية المنشورة في عدة صحف مصرية وعربية، فصول الكتاب بجوار بعضها البعض تشبه كثيرا ألعاب "البازل" أو الالغاز التي يدربون خلالها الاطفال علي لم شتات صورة كبيرة موزعة علي قصاصات صغيرة، ذلك أن حسام تمام في مجموع ما اختاره للنشر في هذا الكتاب كان قادرا بصورة أو بأخري علي تقديم رؤية معمقة لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ترصد وتحلل وتفكك خطوط الجماعة العريضة،وتتلمس مكانيزمات توليد الأفكار والقرارات في ذهنية الجماعة،وتتماس مع الإنساني في لطائفه التي تتوشج هذا التنظيم العملاق كما وكيفا وتاريخا وجغرافية.
تكمن قوة هذا الكتاب في تطوع كاتبه للقيام بالتأريخ للأسود بدلا من الانشغال بالصيادين الذين يستأثرون بالأضواء لأنفسهم طوال الوقت مثلما يقول المثل الافريقي الذي أسلفناه، حيث يتبادر إلي ذهن الشارع السياسي أول ما يتبادر عند سماع لفظة "الإخوان" صورة مرشد الجماعة وأعضاء مكتب الإرشاد، وبعض البارزين علي مدار التنظيم منذ نشأته حتي اليوم،مع بعض المآخذ علي الجماعة فكرا وتطبيقا، فضلا عن تذكر مؤسس الجماعة حسن البنا،وشهيدها المفترض سيد قطب واحد من أشهر المفكرين الاسلاميين وأكثرهم تأثيرا في فكر الحركات الاسلامية.
يوازن الكتاب بذكاء، ربما بعفوية، بين ملامح الجماعة العريضة المتمثلة في صناع قرار الجماعة،وبين أولئك الذين ذهبوا إلي الهامش فيها،تحت ضغوط بعينها، أو لقناعتهم التي أكدت لهم أن الانزواء هو الحل! كذلك يشاكس وينقب في قوة الجماعة الرئيسية المتمثلة في شباب الجماعة، وقود المعركة،ومصدر القوة والجلبة والصخب..والمشاكل والصداع في رأس الجماعة أيضا!!
يحدثك حسام تمام كثيرا عن تلك النزاعات التي نأت الجماعة بها الي الخفاء وفضلت أن (تعف) لسانها عن الخوض فيها درءا لشق الصف.
ربما يظن الكثيرون أن الخلافات البينية في الجماعة هي خلافات بين جيل السبعينات الجموح و(المستنير) والمنفتح علي الشارع السياسي وبين صقور الجماعة وعواجيزها الذين نشأوا علي الجهاز السري والعمليات العنيفة، والذين ذاقوا ويلات التعذيب في المعتقلات الناصرية، فأضحت رؤيتهم وقناعاتهم وحساباتهم خشنة صعبة متيبسة .
الشباب في الجماعة هو الصداع الحقيقي اذا ما شئت الدقة، فخلافات جيل السبعينات مع الرعيل الإخواني الأول بما لم تكن بهذا الصخب وهذه الطرافة!
الشباب قاما بانشاء أول موقع اليكتروني للجماعة علي شبكة الانترنت يفضفضون فيه همومهم(التنظيمية) بين بعضهم البعض تحت اسماء مستعارة بالطبع(تحمل دلالات واضحة) كالمسلم العصري وبنت المجد وفتاة الأقصي وبنت عمرو خالد!
ثرثر الشباب كثيرا بما لايروق قادة التنظيم الجالسين في أعالي التراتب التنظيمي للإخوان، فكيف يتحدث الشباب، بنزقهم، عن طبيعة الديمقراطية داخل الجماعة؟ وكيف يتحدثون عن مآخذهم عن الجماعة هكذا علنا وفي الفضاء الاليكتروني وكأنه فضح علني للجماعة؟
لقد تحدث أحدهم عن شكوي الأخ الذي أحيل للتحقيق في فرع التنظيم في محافظته لأنه قام بدعوة المرشد مهدي عاكف علي الافطار في شهر رمضان!! وتحدث أخ آخر عن استقالته بسبب تسلط قائده في التنظيم والذي هو حماه في نفس الوقت!!
لم يدع مكتب بالإرشاد لتتطور إلي ما هو أسوأ،فجاء الأمر التنظيمي بإغلاق هذا الموقع وكافة المنتديات الشبيهة رغم أنف مؤسسي الموقع من الشباب،فما كان منهم إلا أن صدروا رسائل بريدية معنونة ب"عصر مهدي عاكف الذي لم يقصف فيه قلم"!! وهو عنوان ساخر للغاية كما يبدو يقرن ديكتاتورية عاكف(حسب وجهة نظرهم) بديكتاتورية مبارك الذي طالما تشدق جوقة نظامه بأنه العصر الذي لم يقصف فيه قلم!
كلما أوغلت في الكتاب تتضح لك الصورة أكثر فهذا التنظيم العملاق ليس واحدا صلبا متجانسا أحاديا مبرمجا علي نظام بعينه كما يظن الكثيرون،بل هو خليط غير متجانس الرؤي والأدوات والقناعات الشخصية والطباع،ليس علي مستوي أجياله المتعددة فحسب،بل علي مستوي الجيل الواحد.
يذكر الكتاب القيادي الاخواني الراحل عباس السيسي الرجل اللطيف الذي حاز دورا مهما في صياغة الاتيكيت الإسلامي للجماعة، ورحل في هدوء دون أن يسمع به أحد خارج الجماعة ربما لأنه كما يري المؤلف رحل في هدوء مثلما يرحل كل شيء حقيقي في حياتنا.
السيسي كان رجلا رقيق الحاشية سهل النفس لين المعشر كان يتحدث مع ابنا ءالجماعة عن الانسانيات والعواطف، وكيفية النقاش الهاديء الخلاق..نقاش بالتي هي أحسن وليس بالتي هي أخشن علي حد تعبيره، ألقي الرجل مئات الدروس والوعظيات والخطب عن مثل هذه الأمور في الوقت الذي كان الحديث عن مثل هذه الأمور أقرب الي المياعة علي حد تعبير المؤلف!
هذا الرجل الصوفي الروح الغض الجانب ينتمي لذات جيل مهدي عاكف رجل التنظيم السري والتنظيم الدولي للإخوان، وهي الثنائيات التي يكشفها لك الكتاب بامتداده عن أطياف الاخوان والتي أدت في تفاعلها وتقدم الزمن وتغير الظروف وتطورها باستمرار الي انتاج من يمكنك تسميتهم بالاخوان الديمقراطيين الذين يتحدثون عن حقوق المواطنة والوضع العالمي الجديد بدلا من الحديث عن دولة الإسلام من الصين للأندلس!!
يشير الكتاب الي تخبط الجماعة من الداخل وأزماتها السيكولوجية، فهي تري نفسها مركزا للاصطفائية الإلهية، فاختيار مرشدها مشيئة السماء، وأزماتها ابتلاء المؤمنين، وانتصارتها تأييد السماء!
يطرح الكتب بضعة اسئلة تستحق التوقف، فلماذا لم يكتب الاخوان تاريخهم؟ وماذا حدث للاناشيد والاغاني الاخوانية التي انتقلت من حالة المارش العسكري وثوريات سيد قطب،إلي أغان خفيفة تحاكي الحانها وكلماتها الحان وكلمات اغاني عاطفية مشهورة لعمرو دياب وهشام عباس المطربين العاطفيين الشهيرين!
تقول احدي هذه الاغنيات"من كام سنة سنة وأنا ديني الاسلام..وشريعتي انا سنة وقرآن" قياسا علي الاغنية الشهيرة "من كام سنة سنة وأنا ميال ميال"..
الكتاب علي عمق قراءته للموقف الاخواني تاريخا وحاضرا كتاب لطيف لا تتكبد الكثير من العناء لاجل فهمه،يضم الكثير من القصص الشائقة والدراسات واضحة الملامح وبعض الحوارات العنيفة مع قيادات اخوانية في التنظيم او منشقة عليه.
الممتع والمفيد هو تأريخ الكتاب للأسود، لأناس الظل، للخليط الحقيقي الممثل للجماعة، لداومة الأفكار التي استغرقته، للمسوخات الفكرية التي يقع في شراكها بترهله التنظيمي، لروح الجماعة الكربلائية التي ستعينك كثيرا في فهم نفسية وذهنية الاخوان المسلمين في مصر.
صحيفة الدستور المصرية.