إلي أين يسير قطار التجديد الإخواني حين يغادر محطة التنظيم؟
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
إلي أين يسير قطار التجديد في الإخوان المسلمين حين يغادر التنظيم دون أن يخاصم المشروع الإسلامي؟ يبدو طرح هذا السؤال ضروريا إذا ما علمنا أن كل مشروعات التجديد التي قادها أعضاء سابقون بالحركة لم تجاوز الخروج على التنظيم
وتستحق حركات التجديد والخروج على المشروع الإخواني أن تدرس في ذاتها لمعرفة الآليات والسياقات التي تحكمها والنهايات التي انتهت إليها لكننا نكتفي هنا بإلقاء الضوء على تجربتين مهمتين في تاريخ محاولات التجديد يختلفان في أن إحداهما ظلت وثيقة الصلة بالحركة مارست تأثيرا عميقا عليها وعلى الحالة الإسلامية عامة في حين أن الثانية سرعان ما تحولت إلى طرح ومشروع يهدد الحركة الأم وتضاءل تأثيرها – الذي كان ينتظر أن يكون عميقا- داخل الحركة، ورغم أن إعلان التمسك بالمرجعية الإسلامية ظل يجمعهما.
إلا أن فروقا كبيرة ونوعية في تصور طبيعة هذه المرجعية وحدوها وتفاعلها مع مرجعيات أخرى جعل منهما تجربتين مختلفتين يستحقان التوقف أمامها كثيرا.
في عام 1947 اجتمع عدد من شباب الإخوان المسلمين وتناقشوا فيما بينهم في أوضاع جماعتهم التي كانت قد وصلت إلى ذروة نشاطها واستطاعوا رغم الزخم والضجيج الذي أحدثته حركة الجماعة المتسارعة الواسعة في كل أنحاء البلاد أن يضعوا أيديهم على موطن الداء ومكمن الخطر الذي ستعاني ويلاته الحركة الإسلامية - فيما بعد - لعقود طويلة إذ اكتشفوا أن جسم الحركة يتمدد بسرعة مذهلة في حين يعاني عقلها بطئا في النمو، وأن أنشطة الجماعة السياسية والاجتماعية بل والعسكرية المسلحة بعد أن صار لها جناح عسكري تزيد بعشرات المرات عن الفكري والثقافي وأن المصادر الفكرية والثقافية المفترض أن تغذي كوادرها وقواعدها محدودة ويغلب عليها التقليدية والتكرار والذي يفتقد للإبداع والتجدد.
ورغم حداثة سن هؤلاء الشباب الذين كانت أعمارهم تراوح العشرين بقليل قرر جمال الدين عطية وعبد العظيم الديب ومحمد رشاد رفيق سالم وعبد الحليم محمد أحمد ... وغيرهم أن يأخذوا المبادرة لتصحيح مسار الحركة الإسلامية وأسسوا ما عرف تاريخيا بجماعة "المشروع" والتي اتجه أفرادها لتكوين أنفسهم فكريا وثقافيا بشكل أكثر انفتاحا وتجديدا عما استقر عليه الوضع في أسلوب التثقيف والبناء الفكري في جماعة الإخوان فبدأوا ربما لأول مرة في تاريخ الجماعة التتلمذ على عدد من المثقفين والمفكرين والعلماء من خارج الجماعة وبدأ أفراد هذه المجموعة في حضور صالونات عباس محمود العقاد والعلامة الشيخ محمود شاكر.. وغيرهم ممن لم تكن صلتهم بالإخوان ترشحهم لن يكونوا مصادر فكرية يعتمد عليها في عملية البناء والتثقيف داخل هياكل الجماعة.
ولأن الخطوة كانت جريئة وجديدة تمت في سرية بالغة بعيدا عن القيادات التقليدية للجماعة خوفا من معارضتها ولم يطلع عليها سوى بعض القيادات التي كانت معروفة بالمرونة واتساع الآفاق مثل د. عبد العزيز كامل الذي كان حسن البنا يعده ليكون نائبا له ثم صار بعد ذلك وزيرا للأوقاف في عهد عبد الناصر والذي أبدى تفهما مع هؤلاء الشباب الذين طوروا مشروعهم لإحداث حالة من الانفتاح والتجديد الفكري داخل الإخوان وعرض هؤلاء الشباب مشروعهم على مؤسس الجماعة ومرشدها الأول الإمام حسن البنا بعد ذلك فتفهمه ورأى فيه نقلة جديدة تحتاجها الجماعة التي كانت روح التشدد والجمود قد بدأت تسري فيها بعد تضخم الجهاز العسكري- النظام الخاص- وهيمنة قياداته وسيطرتهم على حركة الجماعة لكن تسارع الإحداث بعد صدور قرار حل الجماعة وقيام بعض شباب النظام الخاص باغتيال محمد فهمي النقراشي رئيس الوزراء ثم ثأر الحكومة باغتيال حسن البنا نفسه أحدث اضطرابا واسعا داخل هياكلها وتدهورت الأوضاع فيما بعد الصدام مع السلطات واعتقال عدد من هؤلاء الشباب وعلى رأسهم جمال الدين عطية أحد أركان المشروع والذي كان سكرتير حسن البنا وهو ما زال طالبا في الجامعة.
ورغم أن فكرة الانفتاح على مصادر فكرية وثقافية أخرى من خارج الإخوان انتشرت واكتسبت أنصارا جددا في أوساط الجماعة خاصة بين الشباب أمثال القرضاوي وعبد الحليم أبو شقة وأحمد العسال وهارون مجدي ...... إلخ.
إلا أن قيام الثورة ونشوب الصراع بين قيادتها وقيادة الجماعة كان الضربة القاصمة التي شتت هذه المجموعة فتفرقت في أنحاء العالم ضمن حركة هجرة جماعية في صفوف الإخوان.
وفي بلاد المهجر الإخواني حاولت جماعة المشروع التواصل فكريا فبدأ أفراده في البحث عن صيغة تتناسب وحالة التشرذم بين البلاد المختلفة التي يعيشون فيها وكانت أنسب وسيلة لاستمرار مشروع التجديد والانفتاح الفكري للحركة الإسلامية هو إصدار مجلة فكرية متخصصة تكون بمثابة المنتدى الفكري الذي يجتمع أعضاؤه على صفحات البحوث والدراسات بعد أن حال تفرقهم في البلاد دون اللقاء المباشر فكانت مجلة المسلم المعاصر الفصلية .
كان صاحب الفكرة جمال الدين عطية الذي عاش سنوات طويلة متنقلا بين انجلترا وسويسرا ولوكسمبورج والكويت وقطر حتى استقر في لبنان وحصل على الجنسية.
فقد استطاع مستغلا أجواء الحرية التي كانت تعيشها لبنان في أوائل التسعينات الحصول على ترخيص بإصدار مجلة كان هو صاحب الامتياز ورئيس التحرير فيها.وفي بيروت كانت إدارة المجلة وبينها وبين الكويت والقاهرة تنقلت الطباعة حسب الظروف السياسية والمالية. وشارك في تأسيس المجلة أسماء من الوزن الثقيل في الساحة الإسلامية مثل أبو الوفا التفتازاني وإسماعيل الفاروقي وعيسى عبده ومحمد الغزالي ومحمد عبد الهادي أبو ريدة ومحمد كمال جعفر وعبد الحليم أبو شقة ومحمود أبو السعود وصدر العدد الأول من المجلة في شوال سنة 1394 نوفمبر سنة 1973 مجلة فصلية تعالج شئون الحياة المعاصرة على ضوء الشريعة الإسلامية كما كتب على غلاف العدد.
ومنذ بدايتها طرحت أسئلة النهضة وقضايا التجديد وأثارت إشكاليات ما زال يعانيها الفكر الإسلامي مثل أزمة العقل المسلم وتقديس التراث والسنة التشريعية وغير التشريعية وحقوق الإنسان في الإسلام والإسلام حركة الحضارة والاجتهاد في أصول الفقه وغيره من القضايا التي لم تحسم إلى الآن في المعسكر الإسلامي.
وتحولت المجلة إلى ما يشبه المنتدى الإسلامي الحي والذي يستوعب الجميع على اختلافهم فكتبت في المجلة طوال عمرها الذي جاوز الربع قرن معظم الأسماء الإسلامية الكبيرة أو التي صارت كبيرة بعد ذلك فكتب فيها القرضاوي وعماد الدين خليل وعبد الله بوعزة ومحمد حمدي زقزوق وغيرها من الأسماء التي تغطي معظم أنحاء العالم الإسلامي وتمثل أغلبية مدارسه واتجاهاته الفكرية.
واعتمدت المجلة سياسة إلقاء الأحجار لتحريك المياه الراكدة في ساحات الفكر الإسلامي فأطلقت بعض أفكار التي أحدثت ضجة وأشعلت معاركة طاحنة بين الإسلاميين أنفسهم مثلما فعل مقال فتحي عثمان في العدد الأول والذي أطلق فيه فكرة اليسار الإسلامي التي تلقفها بعض الشباب في تونس ومصر وبلدان أخرى وطوروها لتصبح عنوانا على اتجاه فكرة بزواج بين الفكر اليساري والعقيدة الإسلامية حتى أن حسن حنفي أصدر بعدها مجلته الشهيرة اليسار الإسلامي والتي توقفت بعد عدد واحد واستمرت المجلة طوال عقد السبعينات ثم الثمانينات تشارك بقوة في حركة الفكر الإسلامي وتغذيها غير أنها حالة حوار وتفاعل خلاق وانفتاح على تيارات فكرية أخرى غير أنها تدريجيا بدأت تأخذ الشكل التقليدي الأقرب إلى مجلة بحث تفتقد للحيوية التي كانت عليها وفقدت كثيرا من تأثيرها في ساحة الفكر الإسلامي بعد أن كانت عنوان التجديد والانفتاح فيه.
كما فتحت المجلة أبوابا للتواصل مع التيارات الفكرية غير الإسلامية في وقت كان الاستقطاب الإسلامي العلماني آخذا في الظهور وهو ما دفع كتابا من اتجاهات علمانية إلى الاحتفاء بها والكتابة عنها كمنبر للحوار مثلما فعله السيد ياسين الذي عرف بها في مقال كبير بمجلة الطليعة اليسارية.
أسباب كثيرة إدارة ومالية وشخصية أيضا ربما كانت وراء تراجع الدور التجديدي الذي كانت تلعبه المجلة ولكن يبدو أن ما أصابها كان جزء من حالة جمود وركود عامة يعيشها العالم العربي والإسلامي لم ينج منها أحد حتى أصحاب المشروع التجديدي الأول في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة.
طوال تاريخه كان الفكر والفقه الإسلامي كما يرصد المفكر والمؤرخ الإسلامي "طارق البشري" يتجدد من داخله ومن مادته، وكان جديده يخرج من قديمه بأساليبه نفسها ومناهجه ومنطقه في التجديد، وكان كل فقيه أو مفكر مجدد يخرج من عباءة سابقيه بعد أن يكون قد استوعب نظراتهم ومناهجهم، وأضاف إليها بما يتفق وتحديات عصره، لكن كان الوضع مختلفًا بالنسبة لتجربة الإسلاميين التقدميين الذين حاولوا التجديد خارج القاعدة الأصلية للفقه والفكر الإسلامي، وبعيدًا عن الأصول والثوابت التي قامت عليها، بل ووفق مرجعيات أخرى تختلف مع المرجعية الإسلامية، بل وتتناقض معها.
والإسلاميون التقدميون تجربة فريدة ونادرة في تاريخ الحركات الإسلامية وحركة التجديد الإسلامي في القرن العشرين وقيمتها ليست كرقم أو إضافة تنظيمية وحركية، فقد كانت فاشلة ومتعثرة بهذا المعيار وبشهادة أصحابها، فلم تسجل رقمًا في المعادلة التنظيمية للحركة الإسلامية، ولم تشكل أي إضافة لها على المستوى الجماهيري، فقد بدأت - وأظنها انتهت - قليلة الأنصار ضعيفة التأثير والفعل بكل المعايير الحركية والجماهيرية، وإنما تتركز قيمتها في كونها النموذج الوحيد بين فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة لمحاولة التجديد خارج الأصول والقواعد الثابتة للفكر والفقه الإسلامي.
والإسلاميون التقدميون هم نواة لما صار يعرف بعد ذلك باليسار الإسلامي، وقد ظهر هذا الاتجاه في تونس قبل عقدين من الزمان، ولم يكتب عنها باستثناء هذا إلا باللغات الأجنبية باستثناء كتاب " الإسلاميون التقدميون" الذي كتبه صلاح الدين الجورشي وصدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وكان المؤلف أحد الذين أسسوا لهذا التيار بعد أن انفصل عن حركة الاتجاه الإسلامي (الإخوان المسلمون بتونس).
لم يكن الأمر في البداية مخططًا له، ولم يكن هناك مشروع أو نظرية كاملة ومتكاملة للتجديد خارج الإطار وبعيدًا عن المرجعية الإسلامية، وإنما كانت البداية بتساؤلات بسيطة عن إشكاليات الهوية والثقافة والحداثة وغيرها من الأسئلة التي ولدتها عقلية محاورة ونقدية ومتسائلة تسعى للخروج على بناء تنظيمي، يصعب فيه إدارة الخلاف بشكل ديمقراطي يحتوي الجميع.
وكانت سلسلة التساؤلات محاولة أو تحركًا لمواجهة ما يمكن أن يسمى بحالة الجمود التي كانت تعانيها الحركة الإسلامية، وخاصة في تونس، وكلها انتهت كمشروع مغاير تمامًا للحركة وخارج عنها وعن بقية الحركات الإسلامية السنية الأخرى. وبدا الأمر أن مجموعة الإسلاميين التقدميين حاولت أن تعالج خطأ الجمود، فارتكبت خطيئة التضييع والتبديد، تبديد كل القواعد والثوابت الإسلامية التي بدونها يمكن أن توصف حركتهم التجديدية بأي صفة، أبعدها الصفة الإسلامية!.
والبداية كما يسرد المؤلف كانت مع اصطدام أعضاء حركة الإسلاميين التقدميين مع أفكار الشهيد "سيد قطب" الذي كان ينظر إليه باعتباره المفكر الأول وربما الأوحد للحركة الإسلامية، والذي صاغ لها مشروعًا متكاملاً يتجاوز بها الإطار المحلي، ويضعها ضمن منظور عالمي بما جعله المصدر الرئيسي للأفكار في الحركة الإسلامية بمختلف فصائلها.
وقد بدأ الصدام مع رؤية سيد قطب للتغيير والتي كانت في نظر الإسلاميين التقدميين تمثل قفزًا فوق التاريخ والواقع، ثم امتدت لتشمل بقية منظومته الفكرية بأفكارها الرئيسية الحاكمية، الجاهلية، والعزلة الشعورية.. ولم يتوقف الأمر عند سيد قطب وأفكاره ولم يقتصر النقد على نقاط الخلل الفكرية أو التربوية أو الحركية التي كانت تعانيها الحركة، بل كرّت المسبحة واندفعت مجموعة الإسلاميين التقدميين لمناقشة ونقد كل منظومة أفكار الإخوان المسلمين وبقية الحركات الإسلامية السنية الأخرى، بحيث انتهت إلى نقد مجمل أفكار الأيدلوجية الدينية المؤسسة لها، ونقص المنظومة السلفية التي تمثل القاعدة التي تقوم عليها كل الحركات الإسلامية السنية في العصر الحديث.
وكانت نقطة الخروج الأساسية هي سلطة النص الديني المقدس والتي تمثل في المنظومة السلفية سلطة مطلقة، في حين لم يسلّم الإسلاميون التقدميون بهذه السلطة المطلقة، فتجاوزوها وخرجوا عليها لحساب العقل والمصالح المعتبرة وغير ذلك من مبررات الخروج على سلطة النص الديني المقدس، والمفارقة أن الخروج على هذه السلطة بدأ بتبني نظرية المقاصد التي تم توسيع حدودها والمبالغة فيها بشكل أخرجها تمامًا عما كان يعنيه الإمام الشاطبي في الموافقات.
ومن ناحية أخرى، عمل أعضاء المجموعة على الانفتاح على مصادر أخرى للفكر والثقافة غير المصدر الإسلامي الذي لم يَعُد بدوره مقتصرًا على المذهب السني فقط، بل تنوع ليشمل الشيعة والمعتزلة وغيرها من المذاهب الإسلامية الأخرى، وحاولت المجموعة صياغة رؤية أو توليفة جديدة من مصادر دينية وثقافية وفكرية مختلفة، واستعانوا فيها بمرجعيات أخرى غير إسلامية بما فيها الماركسية التي أثرت في رؤيتهم للمسألة الاجتماعية والاقتصادية إلى حد كبير، وكانت أول تجربة إسلامية تعتمد الماركسية كمصدر فكري لها، فأثمرت ما صار يعرف باليسار الإسلامي.
تجربة الإسلاميين التقدميين أثارت جملة من الأفكار والإشكاليات وتفجرت بسببها نقاشات مثيرة في أوساط الحركة الإسلامية في تونس وفي المنطقة العربية، من خلال ما عرف بعد ذلك بتيار اليسار الإسلامي الذي ظهر في بعض البلدان العربية كامتداد لتجربة الإسلاميين التقدميين بتونس، وهي إشكاليات وأفكار يرى أصحابها أنها ما زالت مثارة ومطروحة على الحركات الإسلامية بحيث لا تستطيع تجاوزها والقفز عليها أو التوصل إلى حل، استنادًا إلى المناهج التقليدية السائدة والمعتمدة لديها، ومن أهمها: قضايا المرأة، الحداثة، النقابات، العمال، والموقف من الغرب، وغيرها من القضايا الحارقة والمتفجرة.
وقد أسهمت عدة روافد فكرية وثقافية في تشكيل وعي مجموعة الإسلاميين التقدميين، خاصة في بداية نشأتهم، ومن أهمها مجلة "المسلم المعاصر" في بداية ظهورها، وكتابات "فهمي هويدي" الأولى، ومؤلفات "فتحي عثمان" و"حسن حنفي" ومحاضرات "حسن الترابي"، والأعمال الكاملة لرموز النهضة العربية كـ "الكواكبي" و"الطهطاوي" و"الأفغاني" و"محمد عبده".. وكتابات الفيلسوف الهندي "محمد إقبال"، كما يرصد أهم مصادر الفكر العالمي التي أثرت في أفكار المجموعة.
أفادت التجربة الكثير وتبنّت أطروحات نجحت في إثارة القضايا الهامة والمتفجرة، لكنها لم تستطع صياغة منظومة فكرية متكاملة الحلقات والرؤى، وربما أجاد الإسلاميون التقدميون في فتح الأبواب لقضايا مختلفة لكنهم لم يستطيعوا إكمال السير فيها، فتركوا ملفات ضخمة بدون معالجات كاملة في قضايا سياسية وتراثية وتاريخية وعقائدية واقتصادية وفكرية واجتماعية..
انتهت تجربة الإسلاميين التقدميين إلى التهميش والانزواء، وكانت المفارقة أن أكثر الذين لم يتفاعلوا مع هذه التجربة أو يمدّوا إليها جسور التفاهم والحوار هم أبناء التيارات غير الإسلامية التي انفتحت عليها التجربة، وخاصة اليسار والماركسية تحديدًا؛ إذ إنهم كبقية أبناء النخبة العلمانية التي هيمنت على تونس منذ عقبة "الحبيب بورقيبة" فضلوا القطيعة المعرفية الشاملة مع كل ما هو إسلامي حتى ولو كان في صدره توليفة إسلامية يسارية.
وعلى كلٍّ، فقد عاشت تجربة الإسلاميين التقدميين كنبت غريب وانتهت كمجموعة من البحوث والنقاشات والأوراق التاريخية في أرفف المكتبات، ولم يكتب لها أن تستمر في وعي الجماهير المسلمة بسبب خروجها على الثوابت المعتمدة لديها.