الجماعة الإسلامية اللبنانية ..تحديات ومراجعات محتملة
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تعيش الجماعة الإسلامية في لبنان (إخوان مسلمون) أجواء داخلية بالغة الأهمية والتأثير في مستقبل الجماعة؛ حيث بدأت انتخابات الدورة التنظيمية للجماعة (صارت تعقد كل ثلاث سنوات بدلا من أربعة)، ويتم فيها تجديد كل مؤسسات الجماعة، في ظل قاعدة جديدة تمنع البقاء في المنصب ولو بالانتخاب لأكثر من دورتين.
وقد بدأت الانتخابات من قواعد الجماعة بالمحافظات اللبنانية المختلفة لانتخاب مجلس شورى الجماعة، بحسب حصة كل مدينة فيه، والتي تقدر بحسب حجم عضويتها، ثم ينتخب مجلس الشورى الأمين العام ونائبه، ثم تنتخب المكاتب المركزية (أهمها السياسي والتنظيمي والدعوي والعام والتخطيط، ويرجح استحداث مكتب جديد للشباب)، وكذلك المكاتب الإدارية للجماعة بكل لبنان.
ثمة قضايا مهمة يفترض أن تحسمها الجماعة في الدورة التنظيمية الجديدة، في مقدمتها تقييم أداء الجماعة في الانتخابات النيابية الأخيرة، والتحضير لانتخابات البلدية التي ستجرى أوائل العام الجديد، كما يفترض أن يجرى تغيير مهم في قيادة الجماعة بانتخاب أمين عام جديد بدلا من الأمين العام الحالي الشيخ فيصل مولوي الذي يعاني أزمة صحية بالغة أقعدته تماما عن ممارسة مهامه وعن الحياة العامة، ويكاد الأمر أن يكون محسوما بانتخاب نائبه الأستاذ إبراهيم المصري الرجل الأبرز في الجماعة وأحد مؤسسيها، وهو القائم فعليا ووفق اللائحة بمهام الأمين العام منذ مرض مولوي قبل عام.
ولا تكمن أهمية الانتخابات الداخلية التي تعيشها الجماعة الإسلامية فيما ستسفر عنه من تغييرات في الهياكل والمواقع التنظيمية، بقدر ما تكمن في أنها تبدو لحظة مناسبة للنقاش المتصاعد منذ سنوات حول الجماعة ومستقبلها. وأتصور أن السؤال المصيري المطروح على الجماعة هو المتعلق بكيفية استرجاعها لقوتها السياسية باعتبارها التحدي الأساسي، وهو ما يطرح أسئلة مهمة لابد أن تقدم الجماعة إجابات عليها إذا ما كانت تطمح في العودة مجددا للواجهة السنية؛ أولها المتعلق بالخطاب الذي يمكن أن يعطي للجماعة استمرارية الإسلامية مع الارتباط بواقع وطني قائم على التعددية المذهبية وواقع دولي ضاغط، وثانيها المتصل بالعلاقة المفترضة مع الأطروحة والتنظيم الإخواني الدولي، بحيث تتجاوز مأزق تمسكه بأيديولوجيا مفارقة للواقع اللبناني، لكن دون خسارة الخزان الذي يمثله هذا الكيان.
مسارات الصعود والتراجع
تأسست الجماعة الإسلامية في بداية الستينيات، بدأها عمر الداعوق في القلمون بطرابلس باسم جماعة عباد الرحمن قبل أن يستقل عدد من أبنائها بكيان جديد حمل اسم الجماعة الإسلامية، كان جيل التأسيس من الشباب المتأثر بأطروحة الإخوان المسلمين (مثل فتحي يكن وإبراهيم المصري) وبعضهم ممن التحق بها مبكرا كان ممن درس بالأزهر الشريف في مصر (سعيد شعبان وفيصل مولوي)، لكن الستينيات كان زمن جمال عبد الناصر ومشروعه الذي لم يترك للجماعة فرصة الإعلان عن نفسها أو الانتشار بسهولة في بلد كان ناصر زعيمه وملهمه.
تغير الوضع قليلا في السبعينيات لكن سرعان ما انفتحت الجماعة على تحدي الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد عام 1975، واستمرت خمسة عشر عاما ظلت الجماعة فيها رقما بسيطا في معادلة القوى السياسية والإسلامية، لقد كان تكوينها التنظيمي محدودا، كما كانت خبرتها السياسية بسيطة، وحتى دورها في الحرب الأهلية كان محدودا فاقتصر على المساهمة في حماية المناطق السنية، ولم تتورط في الحرب الأهلية فخرجت منها بغير ما يشين.
لم يكن للجماعة مشروع سياسي في الحرب وللحرب، فخرج منها بعض رموزها وأسسوا تنظيماتهم الخاصة مثل الشيخ سعيد شعبان الذي أسس حركة التوحيد كحركة شعبوية انغمست في الأحداث، ولعبت دورا مهما في أحداث مصيرية كالمواجهات مع النظام السوري في طرابلس في الثمانينيات، ورغم أن الجماعة لم تكن طرفا مباشرا في المواجهة مع النظام السوري، فإنها عانت من النظام السوري الذي ظل يتعامل معها كما لو كانت امتدادا للإخوان السوريين، فمارس ضغطا شديدا عليها فأضعف حركتها، وشل كثيرا من فاعليتها طوال فترة وجوده، بل تدخل كثيرا لتغيير خريطة حركات الإسلام السني في لبنان لإبعاد الجماعة عن صدارتها.
جاءت الطائف لتضع نهاية للحرب ولتفتح المشهد أيضا للجماعة التي بدأ حضورها على الساحة يتوهج، وكانت اللحظة مواتية لتختصر الجماعة كل المشهد الإسلامي، وكانت الحركة الإسلامية -خاصة الإخوان- في صعود كبير في كل المنطقة، وكانت الجماعة بدون سجل مشين في الحرب الأهلية، فنجحت في أول انتخابات برلمانية بعد نهاية الحرب (1992) في تدشين نفسها كرقم مهم في الساحة السياسية حين فازت، منفردة وبدون تحالفات مع القوى التقليدية الكبرى، بثلاثة مقاعد في البرلمان (فتحي يكن في طرابلس، وأسعد هرموش في الضنية، وزهير عبيدي في بيروت).
حاولت الجماعة إثبات حضورها البرلماني والسياسي، لكنه كان تقليديا كطبيعة الإخوان؛ فلم يتجاوزوا بعض القضايا التقليدية مثل مطلب البنوك الإسلامية الذي قوبل بالرفض، وارتبك أداؤهم بسبب تعقيد الحالة اللبنانية، وبسبب صعوبة ضبط إيقاع فريقها الثلاثي، فلم يوفق أمينها العام (فتحي يكن) في إدارة زميليه، وكانت تجربة الفريق أول الطرق في انتكاسة العمل البرلماني للجماعة، وفي صف الجماعة الذي شهد خروجا متكررا لبعض قادتها وانفصالهم بمشروعات خاصة (مدارس ومؤسسات خيرية) كان بعضها من مشروعات الجماعة وممتلكاتها.
لكن ما واجهته الجماعة كان أكبر من ارتباك داخلي أو حتى انقسامات أو انسحابات تنظيمية، فقد كانت الجماعة تواجه صعود الظاهرة الحريرية التي بدأت، من بعد اتفاقية الطائف 1989، تكتسح الساحة السنية وتأخذ في طريقها العائلات والكيانات السنية التقليدية. ربما استعصت طرابلس، معقلها وحاضنة السنة، بشكل خاص على الحريرية حينا من الدهر، فلم يحصل فيها على نائب واحد، لكن اغتيال الحريري حصد لتيار المستقبل كل الساحة السنية ومن بينها طرابلس، فاحتشد الناس وراء المستقبل وأحجمت كبرى العائلات والكيانات السنية عن الترشح (ميقاتي وكرامي والجماعة)، ليختصر "المستقبل" الحالة السنية، ويأخذ من رصيد الإسلاميين أيضا، خاصة بعد أن صار خطابه سنيا طائفيا ويدمج بين الديني والسياسي في الطائفة.
تغيرات في المشروع والميدان
ما زالت الجماعة هي الأولى على الصعيد الإسلامي السني لكنها تعيش لحظة مفصلية تضعها بمواجهة أسئلة وتحديات يمكن أن تحدد مسارها وتفرض مواقعها وتحالفاتها وترسم مستقبلها في خريطة القوى السنية والإسلامية عموما في لبنان.
اختارت الجماعة ومنذ السبعينيات الدعوة ميدانا لعملها والمقاومة شعارا مركزيا، لكن يبدو أنها فقدت مواقعها في الساحة الدعوية لمصلحة قوى ومؤسسات أخرى حركية أو غير حركية، مثل المؤسسات السلفية ومؤسسات نجيب ميقاتي في الشمال مثلا، كما أن شعار المقاومة لم يعد مركزيا، وقدرتها على التمسك به صارت ضعيفة في ظل صعود حزب الله واحتكاره الشعار، وإن بقيت الجماعة مع فكرة المقاومة كفكرة، بل كانت أسبق من حزب الله؛ إذ بدأت مقاومتها منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، قبل أن يتراجع حضورها في المقاومة تدريجيا، والذي تزامن مع دخول الحزب الميدان وانفراده به لأسباب كثيرة منها القرار السوري بحصر المقاومة في حزب الله وحده.
تتصدر الجماعة الحالة السنية في الوسط النقابي والمهني والأكاديمي، وفي الثانويات والجامعة التي تكاد تسيطر على ثلثي مقاعد رابطتها، لكن الجماعة تفتقد الوجود في عموم الشارع السني، وتخلو من القيادات الشعبية القادرة على التواصل مع الشارع على غرار سعيد شعبان الذي خرج عليها وأسس حركة التوحيد، نعم تحسن وجود الجماعة مؤخرا في بعض الأوساط العمالية وصار هناك تمثيل لنقابات العمل والمهن في قيادتها، لكن ما زالت الثقافة المتداولة لها لا صلة لها بالمطلبية واحتياجات الناس.
ورغم أن الجماعة تأسست في طرابلس، لكنها لم تعرف طريقها إلى العائلات الطرابلسية الكبرى مثل كرامي والجسر وكبارة وميقاتي، ولم تكن يوما تيار الشارع الطرابلسي رغم أنه شارع متدين وعروبي، حتى وهي في أوج حضورها وتصدرها للإسلامية السنية لم تستطع الجماعة إقصاء الزعامات التقليدية في الساحة السنية لتنفرد بقيادة الطائفة كما فعل نظيرها في الإسلامية الشيعية حزب الله الذي أنهى الزعامات التقليدية وسيطرة العائلات الشيعية على الطائفة.
للجماعة مشروع سياسي هو الأقرب لفكرة الدولة؛ ترفض الجماعة حمل السلاح في وجود الدولة، وهي رغم إسلاميتها تبقى غير طائفية، وتطالب بإلغاء الطائفية السياسية، وقانون انتخاب يعامل لبنان كله كدائرة واحدة مع مراعاة النسبية في التمثيل لقطع الطريق على الإقطاع السياسي ولمصلحة الأحزاب، بعكس القانون الحالي الذي تراه معززا للطائفية، لكن الخطاب السياسي للجماعة يفتقد للنفس التغييري الذي يعطيه نكهة مختلفة عن المعروض السياسي، فتبدو محافظة وتقليدية، ومن ثم تأخذ العائلات التقليدية من جمهورها أكثر مما تعطي، خاصة إذا كانت محافظة دينيا كما في مناطق طرابلس.
تكاد تنفرد الجماعة الإسلامية بكونها الأكثر استقلالية في قرارها السياسي وفي تمويلها الذي تغلب عليه الذاتية ومن ثم المحدودية، لقد فضلت الجماعة ألا تدخل لعبة السياسة من باب المصالح وحماية مصالح الآخرين وتأمينها، لكن تصادمت هذه المبدئية مع ضرورات الواقع السياسي في بلد مثل لبنان كان قدره أن يكون ساحة الآخرين، لقد فقدت الجماعة الدعم المنتظر سواء من الداخل حيث المال السني عائلي بامتياز (الحريري وميقاتي والصفدي) أو من الخارج خاصة من السعودية التي حصرت مالها في العائلات السنية، ثم اختصرتها في آل الحريري الذين صار المال لا يمر إلا إليهم أو عبرهم حتى لو كان لدعم السلفية!
مراجعة الأطروحة الإخوانية
ويبدو أن التحدي الذي بات يفرض نفسه بقوة على الجماعة ويمثل تحديا مصيريا لها هو الذي يتعلق بالكيفية التي يمكن للجماعة بها إعادة التموضع في الواقع السياسي اللبناني، ومن خلال الحيز السني في ضوء تحديات أساسية تتعلق بالمناخ الذي تتحرك فيه الجماعة وفي أطروحتها أيضا.
يسيطر الاحتقان المذهبي على لبنان وهو بلد يقوم على التعددية المذهبية وتظل المذهبية فيه الفاعل الأساسي دون إمكانية للقفز عليه وتجاوزه من ناحية، ودون إمكانية للاشتغال بمنطقه من ناحية أخرى؛ إذ إنه -وإذا كان القفز على الواقع المذهبي يعني غياب الواقعية والتحليق في اليوتوبيا- فإن الاشتغال بمنطق الطائفية المذهبية هو إعلان نهاية للأطروحة التي تقوم عليها الجماعة وأهل السنة عموما: أطروحة وحدة الأمة.
كما أن الأطروحة الإخوانية التي تقوم عليها الجماعة تواجه مأزقا كبيرا في لبنان، فأطروحة الإخوان ظلت تقول بوحدة الأمة وقيام الدولة الإسلامية القادرة على استيعاب التنوع الطائفي والمذهبي وإدارته، وإذا كانت الجماعة قد أسقطت فكرة إقامة الدولة الإسلامية فعليا بالنظر إلى طبيعة الواقع اللبناني المفرط في طائفيته ومذهبيته، وما يقوم عليه من وجود مسيحي ذي وزن؛ فإنها استمرت في أطروحة وحدة الأمة بمكوناتها المذهبية المختلفة، وهو ما يعني -تحديدا في لبنان- الأخوة والوحدة الجامعة بين السنة والشيعة، وقد ظلت الجماعة تثمن من ذلك وتتبناه في رؤيتها وإستراتيجيتها إلى أن اكتشفت في "غزوة" بيروت ( مايو/ أيار 2008) أن الانفصال واقع، وأنها مضطرة إلى العودة إلى حضن طائفتها السنية، وأنها مضطرة إلى الانفصال عن الأطروحة الإخوانية وعن الموقف الإخواني خارج لبنان الذي بدا قائما على تصور لا صلة له بالواقع بعد أن وقف مرشد الإخوان في مصر مساندا لحزب الله "الشيعي" حتى وهو يجتاح بيروت العاصمة "السنية"!
ويتجاوز التحدي أزمة الأطروحة الإخوانية التي تحملها الجماعة لأزمة غياب أطروحة إسلامية سنية تصلح للتعامل مع الواقع اللبناني، فإذا كانت الجماعة تعاني، إلى جانب ضعف بنيتها التنظيمية وضعف مؤسساتها، ضعف التمثيل في الواقع السني فإن هذا الواقع نفسه متوزع، بل متشتت بين أحزاب وتيارات علمانية (أهمها المستقبل)، وبين تيارات سلفية بلا مشروع سياسي وعرضة للتوظيف والاستخدام السياسي من قبل قوى سياسية أخرى بعضها من خارج الطائفة السنية.
لقد تمزقت أطروحة الجماعة بين السياسة الإسلامية التي تفرض استمرار علاقتها بحزب الله وقربه منها (والمشكل أن الحزب الشيعي بدا في سنوات ما بعد التحرير متناقضا معها مصلحيا)، مع مصلحة الجماعة طائفيا ووفق معطيات الوضع الداخلي تقرب بينه وبين تيار المستقبل الذي تختلف الجماعة معه في التحالفات الخارجية باعتباره جزءا من منظومة إقليمية تبدو متناغمة مع أمريكا والغرب، لقد تسبب ذلك التمزق في ضعف وضعية الجماعة في حين كان من المفترض وربما من الممكن أن يتحول هذا الضعف إلى نقطة قوة بتحول الجماعة إلى حكم ونقطة فصل بين الطرفين.