الحركة الإسلامية الموريتانية..الإجابة علي سؤال التحديث
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
باحث مصري في الحركات الإسلامية
ما الذي يمكن أن تفعله حركة إسلامية في بلد كموريتانيا؟ بل وربما ما الداعي لوجود حركة إسلامية فيها من الأصل؟
كانت هذه بعض التساؤلات التي تلح عليّ وعلي أي وافد علي هذه البلد التي أحسب أنها كانت آخر بلد يظن أنها بحاجة إلي حركة إسلامية!؛ فموريتانيا بلد يضرب فيها الإسلام والتدين بجذور عميقة؛ فأهله كلهم مسلمون بل ومن أهل السنة وعلي المذهب المالكي وهي حالة نادرة من التجانس الديني! كما لم تعرف الدولة الموريتانية ذلك الجدل الذي شهدته الدول العربية الأخرى بشأن هويتها إذ اتفق أهلها علي أنها " إسلامية" وكتب ذلك نصا صريحا في الدستور.
هذا من حيث الشكل؛ أما علي مستوي المضمون فحدّث عن إسلام الموريتانيين والتزامهم الديني ولا حرج! فالشعب الموريتاني من أكثر الشعوب تدينا. لا تكاد تجد فردا لم يتخرج من "المحضرة" إحدى مؤسسات العلم الديني التقليدية نادرة المثال؛ ومن ثم فمن النادر أن تجد من لا يحفظ أجزاء من القرآن ( إن لم يختمه كاملا )..وربما كانت موريتانيا من البلاد القليلة التي لا يجرؤ فيها الناس علي انتهاك حدود الدين علنا أو يخلوا بالعبادات والشعائر..ولديهم مثل يقول: أنواع الكفر ياسر- أي كثير- دون ترك الصلاة!.
وقد حذرني صديق من أن أستدعي صورة العلماني في المشرق عند الحديث عن العلماني في بلاد الشناقطة.. فالمثقف " العلماني " قد لا يقطع حديثه معك إلا لأداء الصلاة! ونبهني آخر إلي أن الرئيس المنتخب يمكن بالمعايير المشرقية أن يكون إسلاميا فهو رجل ملتزم دينيا مقدم في طريقة صوفية يمكن أن تصادفه جوارك في إحدى صلوات الجمعة التي يؤديها في مسجد يؤمه الشيخ أحمد فال ولد صالح المحسوب علي الحركة الإسلامية والذي اختير وزيرا للتوجيه الإسلامي في الحكومة الجديدة!
طوال رحلتي لموريتانيا وأنا أحاول الإجابة علي سؤال الوجود..لماذا حركة إسلامية في هذا البلد وماذا يمكن أن تفعله أو تقدمه لها؟ وكان أول مفاتيح الإجابة حين وقعت علي شريط غنائي أصدرته حركة الإصلاحيين الوسطيين( الإخوان المسلمين ) بمناسبة دخولها سباق الانتخابات البرلمانية في ديسمبر الماضي ( 2006 )!
الألبوم الغنائي كان يدور حول الانتخابات وأهميتها، وهو– في مجمله- يحث الناس علي المشاركة في الانتخابات وأن يصوتوا للتيار الإسلامي..وتقول بعض كلماته: زرك يلناخبين..زرك لناخبات ( أي صوتوا ) ..اعل لصلاحيين.. اعل لصلاحيات
لقد أحدث الألبوم تأثيرا كبيرا وتناقلت الصحف أخباره والتعليق عليه فصار محط حديث الناس؛ فهو أول ألبوم تصدره الحركة وتتبناه بعدما كانت تعتمد فيما قبل علي إعادة إنتاج تراث الأناشيد الإسلامية المشرقية ذات الطابع النضالي التعبوي الذي يفيض بمعاني الجهاد والتضحية من أجل الدعوة.
الألبوم كان – كما يبدو- بسيطا في كلماته التي كتبها أحد أبناء الحركة باللهجة المحلية ( الحسّانية )، وهي كلمات هادفة ليس فيها ما يجرح الأخلاق بل هو يحث الناس علي الإيجابية..وأداؤه الفني كان راقيا خاصة وأن من قام فيه بالغناء واحد من كبار الفنانين الموريتانيين وهو الفنان سدّوم ولد أيد الذي ينحدر من أسرة فنية معروفة وهو ما أعطي للألبوم انتشارا واسعا.. ورغم ذلك فقد أثار علي الحركة الإسلامية ثائرة التيارات السلفية والتقليدية بل وربما مجمل المجتمع الموريتاني.
لا يمكن فهم الضجة التي أثارها الألبوم الغنائي الأول للحركة الإسلامية في المجتمع الموريتاني إلا بالتعرف علي موقف هذا المجتمع من الفن وأهله..فالفن في موريتانيا هو مهنة متدنية للغاية ينظر إليه باعتباره مناف للورع والالتزام وقرينة للتهتك وسوء الخلق ولا تمارسه سوي الطبقة الاجتماعية الأقل شأنا ومكانة واحتراما بين الطبقات الاجتماعية التي يتشكل منها المجتمع ( أعلاها طبقة العلماء والعسكر وأهل السياسة وأدناها العبيد)..وتنحصر مهنة الفن في أسر معينة تتوارثه باعتباره مصدر رزقها ولكن ينظر إليها بنوع من الازدراء وعدم الاحترام..فالمجتمع يري الغناء طاردا للتدين ولو كان غناء محافظا؛ وهو في مجمله محافظ إذا ما قورن بمثيله في المشرق!
وفي قضية العلاقة بالفن يعيش المجتمع الموريتاني حالة من الثنائية أو ربما الفصام تستحق التأمل، فهو شعب يحب الطرب ولكن يراه خارما للمروءة، ويقبل علي الاستماع له ولكن دون أن يجاوز فكرة المتعة المؤقتة..فهو مجتمع يحمل في داخله ممانعة ضده قوية تحول دون التطبيع معه! لذلك فهو لا يتعاطي الفن علانية فضلا عن أن يقبل ممارسته، وكثيرون حين يشتاقون للسماع يذهبون إلي مجالس الغناء ملثمين يستمتعون به سرا ثم يرفضونه علنا! وما زال المجتمع متأثر إلي حد كبير بموقف أهل الزوايا والعلماء التقليديين الذين يقدمون رؤية دينية متشددة في مسائل الغناء تذهب إلي تحريمه أو علي الأقل النظر إليه باعتباره منافيا لأخلاق التدين، رغم أنهم في جانب آخرون يجعلون المعرفة بالأصوات الموسيقية من شروط العلم بالقرآن والتلاوة!
في هذا السياق صاغت الحركة الإسلامية موقفها من الغناء والفن عموما والذي اختلف عن موقف مثيلاتها من الحركات الإسلامية المشرقية إلي حد التناقض، ففي حين كانت الحركة الإسلامية في المشرق تنعي علي مجتمعاتها ما تطلق عليه "التفسخ" و"الانحلال" والغرق في مستنقع الفن "الآسن" كانت الحركة الإسلامية الموريتانية تري نفسها بإزاء مجتمع تقليدي يعيش حال تشدد بل واحتقار للفن! ، وفيما ذهب الإسلاميون المشارقة – في أشد حالاتهم اعتدالا- إلي تضييق ما وسعّته مجتمعاتهم من ألوان الفن فقد وضعوا شروطا وضوابط لتقديم فن آخر " بديل " أو " ملتزم "! كان هم الإسلاميين الموريتانيين تفكيك الممانعات التقليدية للمجتمع الموريتاني والتي تحول دون التطبيع مع الفن وأهله! وهو عمل تحديثي بامتياز إذا ما قرأناه في سياق طبيعة المجتمع الموريتاني التقليدي.
ربما كان موقف الحركة الإسلامية من الفن مصدره قناعة حقيقية بدور الفن وأهميته في التعبير عن رؤيتهم، ولكنه كان أيضا تعبيرا عن تمرد مكتوم علي سلطة مجتمع الزوايا والعلماء التقليديين الذي يحتكر الدين، والذي أعلن موقفه من الفن باعتباره مرفوض شرعيا واجتماعيا!
لم يدخل الإسلاميون الموريتانيون معركة الفن، أو بالأحرى معركة تحديث المجتمع عبر الفن، دفعة واحدة، بل بدأوها تدريجيا وبحساب..فقبل عقدين كان شباب الحركة يستوردون الأناشيد الإسلامية من المشرق تفاديا للحساسية من الغناء المحلي الذي هو مظنة سوء الخلق ونقص المروءة، وكان الطابع الحماسي والثوري للأناشيد المشرقية يمثل ساترا واقيا من النقد المتوقع أن يوجهه العلماء والشيوخ حين يرون الشباب "الإسلامي" وهو يتعاطى الغناء!.فكان الإنشاد أول خطوات الحركة الإسلامية الموريتانية لتفكيك ممانعة مجتمعها للفن.
وعبر الحركة الإسلامية التي استدعت الفن في حفلاتها وتجمعاتها تقبّل المجتمع الموريتاني الفن في صورة أناشيد لرموز الفن الإسلامي المشرقي: أبو مازن وأبو راتب وأبو الجود وأبو البشر وموسي مصطفي...وتنقل ما بين الأنشودة التي تعتمد الدف والتي تحتاط دينيا فتتجنبه! وفات هذا النوع من الفن من ممانعة المجتمع التقليدي الذي لم ينظر إلي أصحابها بازدراء كما كان يفعل مع فنانين مشارقة مثل فريد الأطرش عبد الحليم حافظ وصباح ووردة ..وغيرهم ممن يسمع لهم ويتمتع بطربهم ويظل ينزلهم في منزلة دنيا! فالفن مهما كان ممتعا يبقي طبقا لهذا المجتمع حراما أو مكروها وأهله مهما أسعدونا يظلون في منزلة اجتماعية أقل وأدني.
دائما ما كانت الحركة تنظر إلي تشدد مؤسسة العلماء والزوايا من الفن باعتباره طبيعيا في سياق طبيعة المجتمع البدوي والصحراوي، لذلك لم تضع -في بداية نشأتها- موضوع تطبيع موقف هذا المجتمع التقليدي من الفن في سلم أولوياتها ومن ثم لم تفتح ملفه كاملا. فلما قوي عودها وبدأت الدخول في مقتضيات بناء الدولة ومنها العمل العام ولترشح للانتخابات؛ بدأت تسعي إلي تقديم نموذجها للتدين الخاص بها والذي يمكن أن يميزها عن التدين التقليدي المهيمن علي المجتمع، وكان نموذجها هو النموذج المتمدين من التدين؛ نموذج يسعى إلي تأطير الهم الإسلامي حتي يصبح حاضرا في الحياة العامة وليس في الزوايا فقط، ويستطيع أن يتفاعل مع مفردات الهم اليومي للناس ومن بينها الغناء والفن ويحاول أن يقول للمتدينين أن الفن ليس كله حرام، وأن المجتمع الحديث لا يستغني عن الفن وأن الحل في استدعاء الفن إلي مساحة التدين وأهله بدلا من أن يظل منبوذا لا يجد له مكانا تحت سقف الدين وفي أوساط المتدينين.
في فترة ما بعد التأسيس ودخول الحركة في العمل العام والاشتباك مع المجتمع والتدافع مع خصومها وكثير منهم تقليديون أو يستظلون بمظلة مجتمع الزوايا والعلماء التقليديين أدخلت الحركة الإسلامية كتابات الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي والدكتور حسن الترابي والشيخ راشد الغنوشي..وغيرها من الكتابات الإسلامية التي تنتمي إلي ما يعرف بالإسلام المتمدين وليس البدوي ( والتعبير للغزالي وهو شائع بين الإسلاميين الموريتانيين!).
وفي الوقت الذي كان إسلاميو المشرق يضعون تحديا يتمثل في التضييق من حضور الفن أو ضبطه في مشروع المستقبل كان الإسلاميون الموريتانيون يتحركون بخطي حثيثة لجعل الفن جزءا من حياة الناس، فأصدروا لأول مرة شريط غنائي باللهجة المحلية وبأداء أشهر فنان موريتاني ( سدّوم )، وبعدما كان المتدين يفقد سمعته وقدرته علي التأثير إذا ما دخل باب الغناء صارت الحركة الإسلامية تجعل من فنان شعبي مثل سدّوم ولد أيد فردا مقبولا بل ومرحبا به إسلاميا..وهي بهذا لا تتحدي فقط الموقف الديني التقليدي من الفن بل وتضرب التراتبية الاجتماعية فتعيد الاعتبار لطبقة اجتماعية شبه منبوذة أو متدنية مثل الأسر الفنية!
تدرك الحركة الإسلامية الموريتانية أنه إذا كان للإسلاميين شرعية دينية في كل البلاد العربية، فإنهم لا ينفردون بها خاصة في بلد مثل موريتانيا حيث أن هناك من يقتسم معهم هذه الشرعية وينافسهم فيها بل ويسبقهم بقوة كما هو الحال في مجتمع الزوايا وطبقة العلماء التقليديين. وفي سياق هذه المنافسة يدرك الإسلاميون الموريتانيون أن تميز حركتهم وسبقها لن يأتي إلا عبر تقديمها نموذجا مدنية للإسلام عكس ما يقدمه الآخرون..فاختارت تمدين التدين في بلادها مشروعا لها تسير فيه ولكن بهدوء حتى لا يتمنع المجتمع مع خطابها. لذلك فهي وإن لم تتراجع أمام النقد الذي طالها بسبب الشريط الغنائي فإنها لم تفرض فرضا وتركت الخيار لأعضائها وفروعها المحلية في تبني الشريط أو تركه دون التخلي عنه.
كما تعرف الحركة الإسلامية الموريتانية أنها في مجتمع متدين أكثر من معظم المجتمعات العربية الأخرى، وأنها لن تضيف جديدا في مساحة العبادات والأخلاق والعناية بالقرآن والسنة والتراث، ومن ثم فهي حددت مجال إسهامها في مساحة التمدين وما أسمته ترقية الخطاب الإسلامي...إضافة إلي الحركية التي تعطي للأفكار والقيم الدينية القدرة علي الحضور والتأثير في حياة الناس.
ليس لدي الحركة في موريتانيا مفكرون بالمعني التقليدي خاصة وأنها حركة شابة نسبيا ( نشأت في منتصف السبعينيات ) لكن الملاحظ علي كتابات وأدبيات رموزها ( أشهرهم جميل ولد منصور والمختار الشنقيطي ومحمد غلام ولد الشيخ ) هو روح التحديث ومحاولة إحداث تصالح بين الثقافة الدينية والواقع الحديث خاصة إذا ما وضع خطابهم في سياق المجتمع الموريتاني.
لاحظت مثلا عبر نقاشات مطولة أن أشهر المحاضرات التي يتذكرها شباب الحركة الإسلامية محاضرة قديمة لغلام ولد الشيخ عن الإسلام والفن، وهي محاضرة استدعي فيها تراث القرضاوي والغزالي والترابي ومحمد عمارة في هذه القضية وتحاول إيجاد حل شرعي في موضوع الفن يقول للناس أن ما تمارسونه سرا هو حلال شرعا.
لقد قاد الإسلاميون عملية تفكيك ممانعة المجتمع الموريتاني تجاه الفن، حين قاموا عمليا بإصدار شريط غنائي بالدارجة الحسّانية بلسان أشهر فنان شعبي ( سدّوم ولد إيد )، وكانوا قبلها قد رحبوا بفنانة أخرى التزمت بين صفوفهم وصارت تغني مع الأخوات في فاعلياتهن.
علي العكس من مجتمعهم لا يرفض الإسلاميون الموريتانيون الفن بل ويعتبرونه عملا نافعا مثله مثل أي عمل آخر، ويرون أن من الخطأ الاستمرار في نهج مجتمعهم تجاه الفن، إذ ليس من الصواب تضييق الفقه أمام الفن وأهله إلي درجة لا يجدون لأنفسهم معها مكانا في عالم التدين وأهله.
وقد ساعدهم علي ذلك استطاعتهم إدراك جانب مهم يتعلق بوضعية الفنانين في مجتمعهم فهم- إذا قورنوا بنظرائهم في العالم العربي- يمكن النظر إليهم كفنانين ملتزمين..ويضربون مثلا بالفنان الشعبي سدّوم ولد أيد الذي استعانوا به في شريطهم الغنائي الأول؛ فهو محافظ علي الصلوات في المسجد،يقرأ القرآن ويحفظ كثيرا من سوره، ويعتكف العشر الأواخر من رمضان فلا يمارس فيها الفن.
تدرك الحركة الإسلامية أنها في مجتمع يتعدد فيه الفاعلون الدينيون ما بين مؤسسات العلماء التقليديين ومؤسسات الزوايا والطرق الصوفية، وأنها لا تستطيع أن تلغي وجود هؤلاء أو تحل بديلا عنهم، وأن الطريق الأمثل هو أن تقدم مقاربة خاصة بها تضيف إلي رصيد التدين في مجتمعها دون أن تتصادم مع غيرها من الرؤى الدينية الأخري إلا تلك التي تخرق المستقر والمجمع عليه بين الفاعلين الأساسيين؛ مثل رفض العنف والتكفير.
لذلك فقد أكدت الحركة الإسلامية تقديرها للمدارس الدينية التقليدية ( المحضرة ) وأقرت أن لها دورا بالغ الأهمية في حفظ الإسلام تاريخيا في موريتانيا خاصة أثناء الاستعمار حيث أوجدت للشعب الموريتاني مؤسسات أهلية للتعليم ضمنت له قدرا معقولا من المعرفة في الوقت الذي أبعدته عن مؤثرات الاستعمار الثقافية ( حين انسحب الاستعمار الفرنسي عام 1960 لم يكن في مدارس الدولة سوي 490 طالبا فقط!)..فالمحضرة الموريتانية فريدة من نوعها جعلت البادية موئلا للعلم؛ فكلما توغل الإنسان في البادية الموريتانية اقترب من التدين والفطرة النقية القريبة من الإيمان علي عكس البادية في المشرق التي هي أقرب للجفاء ومظنة سوء الخلق..كما أن المحاضر المنتشرة بطول البلاد وعرضها جعلت الدين حاضرا ليس في مؤسسة دينية وحيدة (كالأزهر الشريف مثلا) وإنما من خلال شبكة متكاملة غير مركزية تمثل المجتمع الأهلي الديني.
لكنها- الحركة الإسلامية- تدرك أن المحاضر تحتاج وطلابها إلي تطوير جذري؛ فهي أعجز من أن تقدم استجابة دينية لقضايا حديثة تفرضها اللحظة الراهنة مثل قضايا المرأة والأقليات وحقوق الإنسان والعلاقات الدولية.
وتقف الحركة الإسلامية الموقف نفسه من الطرق الصوفية؛ فعلي رغم تكوينها السلفي ترفض الحركة الدخول في صدام مع الطرق الصوفية التي تضرب بجذورها في المجتمع الموريتاني.إذ للصوفية حضور قديم ودور تاريخي في مقاومة الاستعمار، وهي ظلت جزءا من التركيبية الدينية والتشكيلية الاجتماعية المستقرة في البلاد. وتري الحركة أنه من الأفضل الاستفادة منها في روحانيتها وشفافيتها مع رفض البدع والغلو دون فتح جبهات للصدام معها. لذا حرصت علي بناء علاقات ممتدة مع مشيخات الطرق الأقرب إلي الاستقامة علي منهج أهل السنة.
المجتمع الموريتاني مجتمع تقليدي بامتياز تحتل فيه القبيلة مكانا مركزيا وتتراتب فيه الطبقات الاجتماعية بطريقة تجعل من الصعوبة تجاوزها أو القفز في العلاقات الاجتماعية أو العمل العام، هناك طبقة البيضان ( العرب ) وطبقة العبيد وطبقة الزنوج.
أما الحركة الإسلامية في موريتانيا فهي حركة مدينية يتركز نفوذها في المدينة ( العاصمة نواكشوط بشكل أساس ) ويضعف وجودها إلي حد كبير في البوادي والولايات خارج العاصمة، وهو ما أدى إلي أن تتركز معظم انتصاراتها في الانتخابات الأخيرة في العاصمة التي تتراجع فيها سلطة القبيلة حيث فازت بأربع بلديات من عدد تسع بلديات في حين لم تحقق انتصارا مؤثرا خارج العاصمة.
من حيث المبدأ تلتزم الحركة الإسلامية المنهج الإسلامي الذي يقوم علي أساس المساواة بين الناس؛ فالناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوى، لذلك فقد وقفت مبكرا ضد الرق والعبودية علي عكس مواقف بعض الزوايا والعلماء التقليديين، فذهبت الحركة إلي التشكيك في الأصل الذي قامت عليه العبودية في موريتانيا باعتبار أنها لم تكن عبر جهاد خاصة وان كل أهلها مسلمون وأنها جاءت - في الأغلب- عبر الخطف والبيع ومن ثم فلا أصل شرعي لها..وتبنت مقاربة فقهية تقول أنه إذا كان هناك شك في عبودية إنسان واحد في البلاد فلا يجوز استعباده ..ولأن معظم العبيد استرق ظلما وعدونا وبيعا وشراء بما يجعل من المستحيل التمييز الآن بين الشرعي وغير الشرعي فيترتب علي ذلك عدم جواز الاسترقاق.
ولا يرجع ضعف وجود العبيد والزنوج في صفوف الحركة مقارنة بغلبة العرب ( البيضان ) لموقف فكري أو شرعي بقدر ما هو رهن لظروف خاصة فالمشاركة في السياسة والعمل العام بين العبيد ضعيفة بشكل عام ليس داخل الحركة الإسلامية فقط بل داخل كل الحركات السياسية بل حتى في المنظمات والمؤسسات التي تأسست بغرض الدفاع عن حقوق العبيد!
أما الزنوج فهم خارج فكرة التأطير الحركي والتنظيمي ومازالت الطرق الصوفية هي الأقرب إليهم والأكثر قدرة علي النشاط بينهم..إضافة إلي عزلتهم عن المحيط العام في موريتانيا بسبب اللغة وبسبب الصدامات العرقية التي جرت بينهم وبين البيضان في كل من موريتانيا والسنغال عام 1989..فقد عمقت هذه الحوادث من الفجوة بينهم وبين العرب فصاروا منفصلين حتى في مساجدهم ومقابرهمّ.
من حيث الممارسة الفعلية تقدم الحركة الإسلامية الموريتانية مقاربة مزدوجة من التشكيلات الاجتماعية التقليدية المستقرة؛ فهي علي مستوي البناء الداخلي للحركة لا تقيم اعتبارا للقبلية أو الطبقية حيث تقوم فيها العضوية علي المساواة الكاملة بين أبناء الحركة، ورغم أن أغلبية الحركة من العرب ( البيضان ) فإن هناك مساواة بين جميع أعضائها ( بيضان أو عبيد أو زنوج ). ويمثل رأس الحركة- جميل ولد منصور- نموذجا مميزا لموقف الحركة من رفض قيم الطبقية والقبلية، فأخوال جميل ولد منصور من أهل الطرب وهؤلاء ينتمون لطبقة اجتماعية أدني، ورغم ذلك فهو يرأس الحركة التي تضم في عضويتها أبناء علية القوم الذين ينتمون إلي طبقة العلماء ( الشيخ محمد الحسن ولد الددّو ) أو أبناء الزوايا العلمية ( محمد غلام ولد الشيخ ومحمد المختار ولد موسي وهو سفير سابق) أو طبقة العسكر أصحاب الشكيمة ( مثل الشيخان ولد بيب من أولاد غيلان وهي قبيلة لها نفوذ في الجيش).
أما في التعامل مع المجتمع فإن الحركة تتبني مبدأ ( القبيلة لا القبلية ) حيث تتعامل مع القبيلة باعتبارها معطي اجتماعي راسخ لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه مباشرة اجتماعيا؛ خاصة في المناطق التي تتمتع فيها هذه البني بقوة وحضور مثل البوادي والولايات لذلك فهي تأخذ في اعتبارها مراعاة التشكلات التقليدية فتتفاهم معها لكن لا تعتمدها..فعند وضع لائحتها للانتخابات ترشح أحد أبناء هذه القبائل المقربين من الحركة أو أحد الإسلاميين المنسجمين مع هذا التشكيل الاجتماعي. لكن لا تقبل الإقرار بهذا داخلها. وقد فعلت ذلك حين رشحت أحد أبنائها ( الحسن ولد محمد )ممن ينتمون لإحدى القبائل النافذة ( أديبسات ) فناصرته قبيلته وتحملت القسط الأكبر من تكاليف وجهد الدعاية له حتى فاز برئاسة إحدى البلديات المهمة في العاصمة نواكشوط ( دائرة عرفات ).
تفرق الحركة بين القبيلة والقبلية، فتقبل القبيلة كإطار للتعارف والتواصل والتكافل الاجتماعي في ظل غيبة الدولة. وتنزل علي منطقها عند التعامل في الفضاء العام مراعاة للمجتمع في الحدود التي لا تتناقض مع مبادئ الحركة..لا تحارب الحركة القبيلة لمصلحة الدولة وإنما حربها لمصلحة التحديث
باختصار؛ فإن الحركة الإسلامية الموريتانية هي بنت الدولة الحديثة التي مازالت في طور التشكل، وقد نشأت كاستجابة لتحدي التحديث الذي يجتاح بلد كموريتانيا بدأ خطواته الأولي للانتقال من التقليد للحداثة، وتمثل الحركة الإسلامية محاولة للإجابة علي هذا السؤال ولكن من خلال المرجعية الاسلامية .