قبل ثلاثين عاماً لم يكن لدينا مصلى، والآن هناك 450 مسجداً.. حوار مع الشيخ محمد الشروطي رئيس اتحاد المساجد وعضو المجلس الإسلامي
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
أول ما يلفت النظر في هولندا الدور المركزي الذي يلعبه المسجد في حياة الجالية الإسلامية، فهو يمثل قبلة المسلمين في كل شيء، في أمور الدنيا قبل الآخرة، وهو أشبه بمؤسسة متكاملة ومتعددة الأغراض، يؤدي نشاطاً اجتماعياً ويقدم رسالة ثقافية، ويلعب دوراً سياسياً فاعلاً، هذا إلى جانب وظيفته الأصلية كدار للعبادة.
وفي هولندا 450 مسجداً يقوم على التنسيق بينها عدد من المؤسسات أهمها ( اتحاد المساجد الإسلامية ) الذي يعدُّ من أهم المؤسسات الإسلامية الفاعلة في هولندا وفي دول الشمال الأوروبي أيضاً، ويرأس هذا الاتحاد الذي يقع مقره في المسجد الكبير بمدينة أمستردام الشيخ ( محمد الشروطي ) الذي يعرف كأحد أبرز الشخصيات الإسلامية المؤثرة في هولندا، حيث يعد من أقدم القيادات الإسلامية التي استقرت في هولندا وبدأت فيها الدعوة الإسلامية قبل ثلاثة عقود، وينسب إليه تأسيس أول مسجد في هولندا وهو المسجد الكبير، أول وأقدم مساجد هولندا، إلى جانب تأسيسه لعدد من المؤسسات والمنظمات الإسلامية العاملة في المجال الاجتماعي والثقافي في أوساط الجالية المسلمة من أهمها جمعيتي ( ابن خلدون ) و( المعارف الإسلامية) العاملتين في حقل الدعوة والعمل التطوعي الخيري والعمل النسائي، وهو ما جعل ( الشروطي ) ويعرف في أوساط الهولنديين، حتى من غير المسلمين، كأحد أبرز روَّاد العمل الاجتماعي في هولندا، فكان أول شخصية إسلامية تحصل على الوسام الملكي ( أرفع وسام هولندي ) لدوره في الحياة الاجتماعية، كما اختير ( الشروطي ) هذا العام عضواً بالمجلس الإسلامي الأوروبي ممثلاً عن هولندا وبلجيكا ولكسمبورغ، وفي مقر اتحاد المساجد الإسلامية بمدينة ( أمستردام ) التقينا الشيخ ( الشروطي ) رئيس الاتحاد، وحول دور المسجد في حياة الجالية الإسلامية، وأوضاع المسلمين ومستقبل الإسلام في هولندا كان هذا الحوار.
- بدءاً نريد أن نتعرف إلى قصتك مع تأسيس المسجد الكبير، أول وأقدم مسجد في هولندا؟
- كنت في العشرين من عمري حين قدمت إلى هولندا العام 1970م، وكنت قد تنقَّلت قبلها بين عدد من الدول الأوروبية الأخرى، مثل الدنمارك وإيطاليا واليونان، ولم يكن هناك أي مؤسسة تجمع أبناء الجالية التي كانت حديثة عهد بالبلاد، حيث قدم معظم أبنائها من تركيا والمغرب مع بدء حركة إعادة إعمار أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية .
كانت الهجرة الإسلامية فردية في البدء، ثم لم تلبث أن صارت ظاهرة ملحوظة في نهاية الستينيات، تولدت عنها أعداد كبيرة تركَّز معظمها في المدن الكبرى وبخاصة ( أمستردام ).
ومع التزايد المستمر للمسلمين، بدأت تظهر الحاجة الملحة لجمع شتات المسملين المهاجرين الذين كانت تتزايد مشكلاتهم بتزايد أعدادهم، فقد بدأت الخلافات تدب حول كثير من القضايا والتساؤلات، مثل: مواقيت الصلاة، وبخاصة صلاة العشاء التي يحل وقتها قبيل صلاة الفجر بنحو نصف ساعة في بعض الأشهر، وأوائل الأشهر العربية وبخاصة رمضان وشوال وذي الحجة التي ينقسم الفقهاء، إلى الآن، حول مطالعها، والزواج بغير المسلمين.. إلخ.
وكانت هذه القضايا التي تبدو بسيطة الآن غامضة وملتبسة إلى أبعد الحدود وقتها، وزاد عليها حال الأمية التي كانت تغلب على أبناء الجالية، حيث كان معظمهم من العمال، الذين لم يتحصَّلوا على القدر المعقول من التعليم، ولم تكن ثقافتهم الدينية أحسن حالاً، فقد كانت معارفهم عن أمور العبادات والفرائض شبه منعدمة فضلاً عن المعارف الفقهية بالمشكلات الناجمة عن الحياة في مجتمع غير مسلم.
كما بدأت كثير من السلبيات والقيم والأخلاق المخالفة للإسلام تتسلل إلى أبناء الجالية وبخاصة الشباب الذين كانوا يعيشون حالة من الهزيمة النفسية بسبب قلة العدد والانبهار بالتقدم الأوروبي، حتى إن بعضهم كان يخشى أن يعرف عنه أنه يؤدي الصلاة ويتحاشى الإعلان عن هويته الإسلامية رغم أن الأوضاع في هولندا لم تكن تستدعي ذلك، وكان الحل لهذا الأمر بناء مسجد للمسلمين تؤدى فيه الصلاة، خصوصاً أنه لم تكن تُقام صلاة جماعة، وتناقش فيه مثل هذه المشكلات.
وفي العام 1971م، وكنا على مشارف شهر رمضان التقينا وكنا خمسة من أبناء الجالية المغربية في بيت أحدنا وبعد أن أدينا صلاة العشاء جماعة دار نقاش طويل اتفقنا بعده على فكرة بناء مسجد، ولأنني كنت الوحيد المؤهَّـل شرعياً من بينهم باعتباري من خريجي جامعة القرويين ( أزهر المغرب )، فقد أُلقيت عليَّ المسؤولية وأنجزتها بفضل الله، وكان توفيق الله فيها سرُّ كل نجاح، حيث لم أكن قد استقريت نهائياً في البلاد، كما لم أكن قد حصلت على الإقامة بعد.
- وما العوائق التي واجهتكم وقتها وخصوصاً أنها كانت التجربة الأولى في بناء المساجد في بلد مثل هولندا؟
- كانت اللغة عائقاً كبيراً فلم يكن أحدنا يعرف اللغة الهولندية التي يمكن التفاهم بها مع السلطات وكذلك جهلنا بالأعراف والتقاليد والقوانين الهولندية أيضاً، كما كانت هناك العقبة المادية، حيث البناء مكلف جداً، وفوق طاقة أبناء الجالية، ومعظمهم من الفقراء، كما لم تكن هناك مؤسسة واحدة للمسلمين يمكن أن تقوم بدعمنا أو المساعدة في جمع التبرعات لهذا العمل، وكان الحل الوحيد استئجار مكان يمكن أن نؤدي فيه صلاة الجماعة والجمعة.
ولأن الإيجار كان مرتفعاً وفوق إمكاناتنا فقد قامت هيئة الكنائس بتأجيرنا قاعة ملحقة بإحدى الكنائس بثمن مناسب ورحبوا بنا واستمرت الصلاة فيها فترة إلى أن أجرنا مبنى إحدى دور السينما، وحولناها لمسجد، ثم فتح الله لنا بعد ذلك، فأسسنا المسجد الكبير بالجهود الذاتية لأبناء الجالية العام 1974م في مكان قريب منها، وكانت تلك بداية حركة تأسيس المساجد في هولندا، حيث تفرع عن المسجد الكبير بـ( أمستردام ) كل مساجد البلاد التي وصلت إلى 450 مسجداً، منها 250 للجالية المغربية، والباقي للجاليات التركية والبنغالية والسورينامية وغيرها من الجاليات المسلمة.
- الملاحظ في مساجد هولندا أنها تأسست على أساس من التقسيم العرقي حيث تكون في كثير من الأحيان شبه مغلقة على أبناء كل جالية، ألا يحول ذلك دون وحدة الجالية ويسهم في انقسامها؟
- هذا صحيح إلى حد ما، ولكنه لم يكن مقصوداً، بل كان ضرورياً في بعض الأحيان وأدى إلى نتائج جيدة، فحين بدأت حركة تأسيس المساجد لم يكن ممكناً تجاهل الانتماء العرقي والقومي لسبب مهم جداً هو اللغة، فالجيل الأول من المهاجرين لم يكن لديه إلمام باللغة الهولندية فكان من الطبيعي أن تقوى الصلات بين أبناء الجالية الواحدة، المغاربة، والأتراك، النبغال، والسورينام.. إلخ.
وتتأسس المساجد على اعتبارات اللغة والعرق، حيث تكون الدروس والمحاضرات وكل شيء عدا الخطبة بلغة الجالية، وللحق فقد ساعد ذلك كل جالية على الاحتفاظ بحد أدنى من العلاقات بين أبنائها بما يحميها من الذوبان في المجتمع الهولندي وسمح بإنشاء مؤسسات تعليمية تحفظ ثقافتها ولغتها وتورثها لأبنائها وبخاصة العرب والأتراك، المشكلة ليست في أن يكون لأبناء كل جالية مسجداً خاصاً بهم، ولكن في أن يكون ذلك على حساب توحد كل الجاليات المسلمة تحت مظلة إسلامية.
- لكن ألا ترى أن هذا ما يحدث بالفعل: عدم التوحد تحت مظلة إسلامية؟
- فعلاً وقد أدى إلى مشكلات كثيرة جداً أهمها أنه وبعد أربعة عقود من الوجود الإسلامي في هولندا ليس للمسلمين مؤسسة تجمعهم أو تمثلهم أمام الحكومة، كما هو الحال بالنسبة لبقية الطوائف الدينية الأخرى، وهو ما يهدر قوة نحواً من ثمانمائة ألف مسلم هم تعداد الجالية في هولندا، كما يزيد من انقسامات الجالية لمناسبة ومن دون مناسبة، ففي كل عام تنقسم المساجد حول مطالع الشهور العربية، وبدء الصيام، ومواقيت الصلاة.. وغيرها من المسائل الخلافية، وكل يأخذ برأي فقهي أو يتبع مذهب بلده الأصلي، ويصبح هناك أكثر من رأي في القضية الواحدة، حتى إنك يمكن أن تصلي العشاء في مسجد بتوقيت ثم تصلي في المدينة نفسها، بل وفي مسجد مجاور له بتوقيت آخر!، وقد يصوم رواد بعض المساجد رمضان في حين يفطر رواد مساجد، وتتأخر في مساجد أخرى، كل ذلك سببه التقسيمات العرقية والمذهبية للمساجد مع عدم وجود جهة تشكل مرجعية موحدة لهم ما يزيد من الفرقة خصوصاً بين عوام المسلمين الذين هم أكثر ضحاياها.
- لكن أين دوركم كاتحاد للمساجد من المفترض أن يكون هناك جهة لحسم مثل هذه الخلافات؟
- الحقيقة أن الأمر على غير ما تتصوره، فإدارة كل مسجد تتمسك برأيها أو ( استقلالية قرارها على حسب ما تقول وتجتهد )، ومن ثم فدورنا في اتحاد المساجد استشاري وتوجيهي وليس له صفة الإلزام ونحن لا نفضل إجبار إدارات المساجد على تبني رأي معين حتى لا يحدث صدام أو تضارب معها، وما نحرص عليه في مثل هذه الخلافات هو دعوة العلماء والمختصين لدراسة الأمر أو المشكلة، محل الخلاف، واستقصاء رأي علماء المسلمين الموثوق فيهم من العالم الإسلامي وأحياناً ننظم مؤتمراً لهم ثم نعلن النتائج التي تسفر عن آراء المؤتمرين ونوصي المساجد التابعة لنا ( إذ ليست كل المساجد تتبعنا ) بتبني ما انتهى إليه رأي العلماء في هذه المشكلة والقرار النهائي لإدارات المساجد.
- لكن ألا يؤثر هذا على دور المساجد بين أبناء الجالية المسلمة وخصوصاً في ظل التطورات التي لحقت بها وظهور مؤسسات أخرى ( اجتماعية وثقافية وسياسية ) مستقلة عن المساجد وقد لا تتفق معها في توجهاتها؟
- إذاتحدثنا عن التأثيرات السلبية لهذه الانقسامات فهذه حقيقة وبخاصة لدى الأجيال الجديدة الأكثر اندماجاً في المجتمع الهولندي والذي نحن عرضة للذوبان فيه، لكن الحديث عن تراجع دور المسجد بين أبناء الجالية المسلمة لصالح مؤسسات أخرى غير حقيقي، أو هو سابق لأوانه على فرض حدوثه مستقبلاً، فرغم ظهور مؤسسات كثيرة للجالية، تعليمة واجتماعية وثقافية.. إلخ.
لكن تبقى المساجد هي الأكثر تأثيراً في حياة المسلم وخصوصاً أن كل هذه المؤسسات نشأت في بدايتها كجزء من المساجد وتفرعت عنها، والسبب في رأيي أن المسجد هو المؤسسة الوحيدة التي لا يستغني عنها المسلم، ويظل مرتبطاً بها في كل أوقاته، وبخاصة في البلاد التي يكون فيها المسلمون أقلية، فيتحول المسجد فيها إلى حصن للمسلم يحميه من الضياع والذوبان، والذي يشكل العقل المسلم ويصوغه إلى الآن هو المسجد، فمهما تحدثنا عن ثورة الاتصال وتأثيرها على الهوية، فالجميع يدرك ذلك بما فيهم غير المسلمين، لذلك لا تستطيع أي جهة حكومية أو غير حكومية في هولندا القفز على مكانة المساجد أو تجاهلها حتى لو كانت تلك رغبتها.
على سبيل المثال: حين أرادت الحكومة قبل سنوات رسم سياسة للأجانب أرسلت إلى المساجد ( مذكرة سياسة الأجانب ) قبل اعتمادها تستطلع رأيهم وتطلب مشورتهم، من دون أن يكون هناك ما يجبرها على ذلك، ولا تقطع السلطات أمراً فيما يتعلق بالأقليات أو الجالية المسلمة تحديداً من دون الرجوع إلينا. وحين أراد ولي العهد الأمير ( فيلم الكسندر ) فتح علاقة مع الجالية المسلمة اختار اتحاد المساجد ليكون المؤسسة الإسلامية الوحيدة التي يزورها في اعتراف ضمني بدور المساجد وكونها الممثل الأول للمسلمين أمام الحكومة، رغم عدم وجود اعتراف رسمي، وهي الزيارة الأولى من شخصية ملكية لمؤسسة إسلامية، وبعد حملة الاعتداءات التي تعرضت لها الجالية المسلمة في سبتمبر 2001م على خلفية انفجارات مركزي التجارة في أميركا زار الاتحاد الوزير الأول في الحكومة ( رئيس الوزراء ) ( فيم كوك ) وهذه أول زيارة يقوم بها مسؤول بدرجته لمؤسسة إسلامية لتهدئة الجالية، والتأكيد على حقوقها كجزء من المجتمع الهولندي، وحتى الوسام الذي حصلت عليه هذا العام من الملكة ( بياتريس ) كأول شخصية إسلامية كان بالأساس لاتحاد المساجد ممثلاً في شخصي، وليس لي فقط، وفي كل الأحداث المهمة والمبادرات الجديدة، يأتي الاتحاد في المقدمة وهو ما يعكس أهمية المسجد والوزن النسبي الكبير الذي تحتله في حسابات والحكومات في هولندا رغم علمانية الدولة وفصلها الصارم بين الدين والسياسة!.
- هل يعني ذلك غياب الدور السياسي للمسلمين خارج المساجد على الرغم من وجود عدد كبير من السياسيين المسلمين أعضاء في البلديات والأحزاب، ووفق معلوماتي هناك ثمانية منهم على الأقل في البرلمان الهولندي؟
- صراحة أقول: ليس هناك ثقل سياسي للمسلمين في هولندا، وليست لهم مؤسسات سياسية بالمعنى المعروف، أما بالنسبة للموجودين منهم في البرلمانات والمجالس التنفيذية فللأسف لا علاقة لمعظمهم بجالياتهم المسلمة، ولا يمثلون سوى أنفسهم ومصالحهم أو الأحزاب التي ينتمون إليها والتي دفعت بهم إلى هذه المراكز، بل هم أكثر الفئات ذوباناً في المجتمع الهولندي مع بعض الاستثناءات القليلة، ويكفي أن تعرف أن قانوني زواج الشواذ، والقتل الرحيم ( قتل الميئوس من شفائهم ) الذين أقرهما البرلمان أخيراً، وافق عليهما جميع النواب المسلمين على عكس موقف كل الجالية المسلمة والإسلام نفسه، باستثناء عضو أو اثنين ينتميان للحزب الديموقراطي المسيحي الذي عارض القانونين!!.
أكثر من هذا، فإن واحداً منهم هاجم المسلمين بعد انفجارات أميركا واتهمهم بالإرهاب ودعا إلى ترحيلهم من هولندا إلى الصحراء التي جاؤوا منها!!.
- لكن أين تأثير الكتلة الانتخابية المسلمة، ألا تستطيع الدفع بسياسيين مسلمين أو غير مسلمين يمثلون مصالحهم، خصوصاً مع ارتفاع عدد المسلمين إلى نحو 8% من سكان هولندا، مقارنة بالجالية اليهودية مثلاً والتي لا تزيد على 25 ألف نسمة، ورغم ذلك لها تأثير كبير في السياسة الهولندية؟
- الحديث عن كتلة انتخابية للمسلمين مازال مبكراً، فعلى الرغم من العدد الكبير نسبياً للمسلمين في هولندا، فهم لا يشكلون رقماً سياسياً يعتد به، بسبب التشرذم وعدم وجود مؤسسات معترف بها تجمع هذا العدد وتوظِّفه، وكذلك بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها الجالية وخصوصاً أن معظمها كان وإلى وقت قريب من العمال وغير المؤهلين علمياً ومن دون رصيد أو خبرة سياسية في بلادهم الأصلي.
لذا فالحس السياسي مازال ضعيفاً لدينا والتقاليد والآليات الديموقراطية مازالت جديدة علينا، والمقارنة مع الجالية اليهودية غير مناسب وفيه ظلم لنا أيضاً، فتاريخ اليهود في هولندا يمتد لأكثر من ثلاثة قرون بينما لا يتجاوز عمر الجالية المسلمة فيها نصف قرن، وهم أكثر خبرة بالسياسة وتغلغلاً في دهاليزها من الجالية المسلمة، ويكفي أن تعرف أن منصب محافظ مدينة أمستردام ( أهم المدن الهولندية ) يتولاه اليهود منذ نهاية الحرب العاليمة الثانية.
ولكي نتحدث بموضوعية نقول: إن أمامنا الكثير لكي يكون للمسلمين تأثير سياسي في هولندا، وربما يشذ عن القاعدة إخواننا الأتراك، فهم أكثر منَّا وعياً بالعملية السياسية، وقد نجحت حركة ( مللي جورش) (الجناح الأوروبي لحزب الفضيلة) في الدفع بعضوين إلى البرلمان ولديهم تنظيم سياسي قوي إلى حد كبير في هولندا.
- لكن إذا عدنا إلى دور المساجد ألا ترى أن قدرتها على التأثير في الأجيال الجديدة أقل منها بالنسبة للأجيال الأولى، وأنا أتحدث على وجه العموم ولا أعني قطاعات المتدينين فقط؟
- هذا صحيح إلى حد كبير، والسبب في رأيي أن كثيراً من الأئمة انشغلوا بالخلافات والقضايا الفرعية عن تطوير أنفسهم وتقديم خطاب جديد يناسب الأجيال الجديدة، كما أن معظمهم لا يمتلك قراءة جيدة للمجتمع الهولندي والأوروبي عموماً، ومن ثم تغيب عنه المشكلات الحقيقية التي تعانيها الجالية وبخاصة الجيل الجديد منها، ويزيد على ذلك أن كثيراً من الأئمة والخطباء جاؤوا من بلدان العالم الإسلامي، وهم يحملون معهم كل الخلافات، بل المعارك الفكرية والمذهبية وأحياناً السياسية، فقلل ذلك كثيراً من الدور الذي كان يمكن للمساجد أن تؤديه خصوصاً مع الأجيال الجديدة التي ترى أنها لا صلة لها بالكثير مما يقوله هؤلاء الأئمة، فهم يرون أنفسهم مسلمين نعم، ولكن هولنديين أيضاً وجزء من المجتمع الذي يعيشون فيه بقضاياه ومشاكله، ولا شأن لهم بمشكلات مجتمعات أخرى إلا في حدود الأخوة الإسلامية هذا على أفضل الأحوال، وانتهى الأمر بفجوة بينهم وبين هؤلاء الأئمة..
مثلاً لدينا مشكلة تعبِّر عن الأزمة التي نتحدث عنها وهي خطبة الجمعة، فالجيل الثالث الذي ولد وتربى في هولندا لا يعرف لغة أهله الأصلية، ومن ثمَّ يصعب عليه فهم خطبة الجمعة لأنه لا يجيد العربية لغة الخطبة حتى أبناء الجالية العربية نفسها، وفي الحال نفسه بالنسبة لأبناء الجاليات غير العربية ( كالأتراك والبنغال مثلاً ) فهم لا يفهمونها بالطبع كما لا يجيدون لغة أوطانهم الأصلية التي يقدم بها شرح للخطبة قبلها أو ترجمة لها بعد الصلاة، والخطباء في كل الأحوال لا يعرف أغلبهم اللغة الهولندية، ومن ثمَّ فنحن أمام تحد كبير يتعلق بالأجيال الجديدة التي تمثل مستقبل الإسلام في هولندا، ونحن من جانبنا بدأنا دراسة مدى شرعية إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية خصوصاً أن إلقائها بالعربية ثم ترجمتها يستغرق وقتاً طويلاً يؤدي لانصراف الشباب عن حضورها، ونحاول إعداد الأئمة وتدريبهم على إجادة الهولندية والخطابة بها.
- إذا تحدثت عن المشكلات التي تواجه الجالية المسلمة في هولندا فكيف تحدد لنا معالمها؟
- هي ليست قليلة ولكن يمكن ردها جميعاً إلى إشكالية العيش في مجتمع غير مسلم، فهناك اختلاف ثقافي وحضاري حاد التناقض وهو يتجاوز الدين والمعتقد إلى العادات والأعراف والتقاليد والأخلاق في كل تفصيلات الحياة اليومية وتزداد المشكلة حينما تأخذ هذه الاختلافات طابع القوانين الملزمة التي لا يمكن معارضتها كإباحة زواج الشواذ مثلاً، فرغم مخالفته لكل الأديان السماوية، إلا أنه مباح بقوة القانون، ولا يستطيع أحد الاعتراض عليه، ولك أن تعرف أن أحد أئمة المساجد تعرض للمحاكمة بسبب هجومه على الشذوذ والشواذ، وكاد أن يُطرد من البلاد ومازالت عليه دعاوى قضائية من بعض الشواذ بتهمة التحريض ضدهم!.
لدينا أيضاً ذلك التعارض بين قوانين البلاد وبعض قيمنا الدينية عندنا مثلاً أزمة الطلاق المكره، حيث يضرب الزوج زوجته فيبلغ الجيران الشرطة التي تتحفظ على الزوجة بعيداً عنه في مكان (يسمونه آمنا)، ونحن لا نعتبره هكذا، وتقوم السلطات في أغلب الأحيان بتطليقها منه، فتصبح مطلَّقة قانوناً رغم أنها زوجته شرعاً! هذه الأوضاع وغيرها مما يطول شرحه يتولد عنها مشكلات كثيرة أخرى تتجاوز المشكلات التقليدية ( مثل تربية الأطفال، وانحراف الشباب، وتوافر الطعام الحلال.. إلخ ) فلدينا الآن مشكلات من قبيل زواج المسلمة من غير المسلم!.
- وماذا عن علاقتكم كمؤسسات إسلامية وجالية مسلمة عموماً بالمجتمع الهولندي؟
لكي نكون منصفين لابد أن أشير إلى خصوصية المجتمع الهولندي فيما يتعلق بالثقافات الوافدة عليه، فهولندا برأيي أكثر دول أوروبا تسامحاً مع المهاجرين واستيعاباً للثقافات الغريبة عنها، ففي مدينة مثل (أمستردام) على سبيل المثال مواطنون من 182 جنسية في العالم وفق تقارير الأجانبي في هولندا (أي من كل جنسيات العالم تقريباً) ويقدر عدد مواطنيها ذوي الأصول الأجنبية بنحو 53% من إجمالي تعداد سكانها، وتشكل الجاليتين التركية ( 350 ألف نسمة ) والمغربية ( 300 ألف نسمة ) على الترتيب أكبر جاليتين مسلمتين في هولندا، ولا يعرف عن الشعب الهولندي الميول العنصرية أو كراهية الأجانب حتى بين الشباب، على عكس بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا، والهولنديون بشكل عام لديهم قدرة على استيعاب الثقافات الأخرى وتوظيفها والاستفادة منها.
ورغم أن تاريخ الوجود الإسلامي حديث نسبياً ولا يتجاوز نصف القرن تقريباً إلا أن الاهتمام بالإسلام قديم في هولندا ويتجاوز أربعة قرون، فالدراسات الاستشراقية في جامعة ( لايدن ) بدأت في القرن السادس عشر، وترجمت معاني القرآن إلى اللغات الأوروبية ظهرت في ( لايدن ) في التوقيت نفسه تقريباً، أي أن الإسلام لم يكن غريباً على الهولنديين، واعتقد أن ذلك كان سبباً في أن علاقتنا نحن المسلمين بالمجتمع الهولندي طيبة إلى حد كبير، وقد أشرت لك كيف أن أول مصلى حصلنا عليه كان بمساعدة إحدى الكنائس المسيحية، لكن لا يعني هذا أن الصورة مثالية، فهناك مضايقات كثيرة نتعرض لها وتحيز ضدنا، وافتراء علينا بغير الحق خصوصاً من وسائل الإعلام التي تتأثر كثيراً بدوائر الساسة والإعلام الأميركي والصهيوني، وقد تعرضنا بعد انفجارات مبنيي التجارة في أميركا مثلاً لأبشع حملة إعلامية اتهمنا فيها بالإرهاب والوحشية والتخلف وغيرها من مفردات قاموس السباب والتشهير، وأثَّر ذلك على علاقتنا بالمجتمع ووضعنا فيه، وإن حاولت المؤسسات الرسمية تدارك ذلك لاحقاً، ولكن بعد أن نلنا منه الكفاية.. ورغم ذلك يبقى الحال أفضل كثيراً من وضع الجاليات الإسلامية في البلاد الأوروبية الأخرى.
- وكيف ترى مستقبل الإسلام في هولندا؟
- أنا متفائل جداً، ومصدر تفاؤلي ليس الحسابات والمؤشرات، وإن كانت تدعو إلى التفاؤل أيضاً، رغم بعض الصور السلبية، إنما تفاؤلي يرجع إلى قوة الإسلام الذاتية التي تجعله يتقدم حتى في أسوأ حالات أتباعه ضعفاً، فرغم أن أحوال المسلمين ليست طيبة، إلا أن الإسلام يكسب كل يوم مساحات جديدة، فالإسلام صار الديانة الثانية في هولندا بعد المسيحية من حيث عدد الأتباع رغم حداثته فيها، وهو صاحب أعلى معدلات النمو والانتشار أيضاً، ليس بسبب الهجرة الإسلامية إلى هولندا فقط، بل لأن الإقبال على اعتناق الإسلام في تزايد خصوصاً بين النساء وفي أوساط الشباب الهولندي .
وتقدر أعداد المسلمين من ذوي الأصول الهولندية بنحو عشرة آلاف مسلم، وهذا رقم كبير، وأوضاع الجالية المسلمة في تحسُّن مستمر فنسبة التعليم وتولي المناصب العليا في تزايد وكذلك المؤسسات الإسلامية، لدينا أكثر من ثلاثين جامعة إسلامية.. ومعدلات العودة إلى الإسلام والالتزام به عالية جداً خصوصاً بين الشباب والفتيات، وهناك وعي يتزايد باستمرار بالذات الإسلامية والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام أفضل كثيراً مما كان عليه الوضع قبل ثلاثين عاماً واعتقد ومن دون مبالغة أن المستقبل للإسلام إن شاء الله.
مجلة الوعي الإسلامي
العدد : 530