المدونون الإخوان.. حركة احتجاجية أم تيار للنقد الذاتي؟
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كانت ظاهرة المدونات (البلوجز) الإخوانية من أكثر ما لفت الانتباه لجماعة الإخوان المسلمين وما نال منها من تغيرات في السنوات الأخيرة، وانقسمت وجهات النظر حولها في شكل أسئلة تجمع ما بين عالم الإخوان وعالم التدوين: هل يمكن النظر لظاهرة المدونات كتعبير احتجاجي داخل الإخوان؟ وهل تعبر عن اتجاه استقلالي أو نوع من الفردانية داخل الجماعة؟ هل هي استجابة لطلب الانفتاح الداخلي أو الانفتاح على تحالفات سياسية عاشته الجماعة في السنوات الأخيرة؟ أم هي تعبير عن انفتاح بين أفراد الجماعة وعلاقتهم بالتنظيم؟ كيف تعامل معها التنظيم؟ هل خاف منها أم رأى أنها ظاهرة جيدة ومفيدة؟ كيف تعامل التنظيم مع ظاهرة لا سوابق لها (ليست انشقاقا كالوسط مثلا)؟ وأي استراتيجية تبناها في تعامله مع هذه الظاهرة؟
لا تفهم ظاهرة التدوين بين شباب الإخوان إلا بمعرفة السياق الذي ظهرت فيه؛ فقد كانت جماعة الإخوان تعاني من غياب أي مؤسسة إعلامية قوية يمكن أن تمثلها أو تعكس وزنها في الحياة العامة باعتبارها القوة المعارضة الأولى، أو تتولى عبء التصدي للحرب الإعلامية التي يشنها النظام ضدها، وزاد من مأزق الإعلام الإخواني أن الدولة التي تمنع الإخوان من أي حضور في إعلامها الرسمي أو شبه الرسمي قامت بالتضييق على المتاح من الإعلام الإخواني المحدود والهش وغير الاحترافي وكان آخرها إقدامه على وقف ترخيص صحيفة "آفاق عربية" الأسبوعية التي كانت تمثل لسان حال الجماعة في سنوات العشر الأخيرة بموجب اتفاق مع إدارتها التي تتبع حزب الأحرار الليبرالي! لقد ولَّد هذا المأزق طلبا إخوانيا على الإعلام البديل الذي كان الإنترنت أداته المثلى، وزاد من هذا الطلب حالة الانفتاح السياسي التي شهدتها البلاد مند بداية عام 2005 فيما عرف بربيع الحرية الذي نزلت فيه الجماعة إلى الشارع، وكانت آمال التغيير تمسك بخيالها كما بخيال كل القوى السياسية والشارع المصري.
في هذه الأجواء ولدت ظاهرة التدوين لا كحركة احتجاجية ضد الجماعة أو كتمرد عليها وإنما كجزء من دينامية التمدد الإخوانية في أي فضاء متاح والتي يحدوها الأمل في التغيير الذي يضمن للجماعة موقعا متقدما في مصر القادمة.
إذن لم يكن التدوين -على الأقل في بدايته- سباحة ضد التيار الإخواني العام ولكنه جاء ضمن تحول أو تطور عام لدى الإخوان في التعامل مع الإعلام البديل وخاصة الإنترنت، وسنلحظ أن الفترة التي ولد فيها المدونون الإخوان هي نفسها التي شهدت أكبر حركة تأسيس للمواقع الإخوانية على الإنترنت والتي أخذت دفعتها الأولى مع دخول الإخوان في الانتخابات البرلمانية لعام 2005، وفيها تأسست عشرات المواقع الإلكترونية، سواء أكانت تمثل فروع التنظيم في المحافظات (تقريبا تأسس موقع للتنظيم في المحافظة) أو كانت مواقع فردية لشيوخ الجماعة وأبرز دعاتها ورموزها، وبدأ تقليد نشر رسالة المرشد الأسبوعية وتعميمها على الشبكة الإلكترونية والبث المباشر لوقائع حفل الإفطار السنوي للجماعة على الإنترنت بل وحفلات الإفطار الفرعية التي يقيمها الإخوان في المحافظات المختلفة.
لقد جاء التدوين الإخواني أيضا كجزء من سعي الإخوان لإعادة تموضعهم في المشهد العام كنتيجة للانفتاح السياسي الذي شهدته البلاد أو تماهيا معه أو تسريعا لوتيرته حيث كان يحمل لها من الآمال الكثير.
لم يختلف خط التدوين الإخواني كثيرا عن الخط الإخواني السائد فدائما ما كانت المدونات تضج بالشكوى من النظام وظلمه للإخوان وما يقوم به من اعتقالات ومحاكمات عسكرية ظالمة وتغييب لهم في السجون، أو دفاع عن الإخوان ضد سوء الفهم الذي يقابل به خطابهم، أو شرح لما غمض من هذا الخطاب.
لقد كان مضمون التدوين الإخواني هو نفسه مضمون الإخوان سواء في الاهتمامات والقضايا مع فارق بسيط يتصل بالأسلوب الذي كان أقرب إلى أسلوب فك الحصار؛ فشباب المدونات وهو يؤسسها كان أقرب إلى طلائع اختراق أو فك الحصار الإعلامي عن الجماعة التي تعاني ماكينتها الإعلامية من عطب تغيب معه المهنية إلى حد الانعدام وتسيطر عليها لغة خشبية أقرب إلى لغة بيانات الإعلام الرسمي.
فكان أن طرح المدونون الإخوان أنفسهم لا كتعبير مضاد للجماعة وواقعها وإنما كلسان حال "إخواني" أكثر فصاحة وقربا من المجتمع وقدرة على مخاطبته شارحا للجماعة مبلغا عنها ما عجز عن بلاغه لسانها الرسمي.
سنلاحظ ذلك في خطاب مجمل المدونات الإخوانية، بل إن أكثرها شهرة وجرأة وربما استقلالية (مدونة: أنا إخوان) كانت في بدايتها (أغسطس 2006) أقرب إلى نشرة أكثر ثورية وكفاءة من نشرات الإعلام الإخواني العتيقة ولم تكن تمردا عليها. لقد جاء التمرد لاحقا ليس على الخطاب الإخواني ولكن على ضعف الإعلام الرسمي المعبر عن خطاب الجماعة بل وافتقاد بعض مؤسسات الإعلام الإخواني المهنية وخروجها على قواعدها، وهو ما يظهر فيما فعله بعض شباب الإخوان المدونين الذين أسسوا موقع "إخوان أوف لاين" ضدا لـ "إخوان أون لاين" الموقع الرسمي للجماعة محتجين على ما اعتبروه تعديا على أصول المهنية وأخلاقها سواء من حيث ضعف الأداء أو من سرقة جهود المدونين الإخوان ونسبتها للموقع!.
وعلى عكس المدونات الشخصية أو حتى التي ينتمي أصحابها إلى اتجاهات سياسية وفكرية أخرى كاليسار؛ كانت المدونات الإخوانية -في بدايتها على الأقل- جماعية نضالية تفتقد للبوح والفردانية، وكانت لغتها إعلامية صحافية غير فردية.
في التدوين الإخواني لم يكن هناك تمييز بين المدونة كتعبير عن الذاتية والخصوصية وبين التدوين كفعل سياسي احتجاجي؛ لقد كانت الذات غائبة أو تكاد في التدوين الإخواني فكانت المدونة في كثير من الأحيان أقرب إلى موقع إخواني فردي أو يقوم عليه أفراد، أو كانت في حال أفضل أقرب إلى منبر إعلامي للفرد الإخواني باعتباره جزءا من الجماعة الأكبر وليس مكانا للفردانية حيث البوح وحديث الذات.
حتى التسميات التي حملتها المدونات كانت -في الأغلب- جزءا من الجماعية النضالية الإسلامية منها إلى الفردانية مثلما سنجد في "أنا إخوان" و"أنا معاهم" و"ابن أخ" و"واحد من الإخوان" و"دينامو الإخوان" و"شباب الإخوان".
هكذا كان التدوين الإخواني في بدايته جماعيا نضاليا؛ غير أن الذي حدث أن الوسيلة تفرض منطقها وأن هذه المدونات كانت لابد أن تمضي ولو جزئيا فيما يفرضه منطق الإنترنت الفرداني؛ فكان أن ظهرت مدونات أكثر فردية وذاتية وتميل لغتها إلى البوح.. مثل مدونات: مكسرات، فوضى منظمة، همسة قلم، يلا مش مهم... تطور التدوين الإخواني باتجاه مختلف يجعله أقرب إلى حالة من النقد الذاتي تحول معها المدونون من الجماعية إلى الذاتية ومن كونها لسان الجماعة الفصيح إلى ضميرها الذي لا يتورع عن نقدها لو لزم الأمر!، وكانت ثمة عوامل أسهمت في هذا التطور أهمها انكسار حركة الإصلاح التي كانت واعدة وما صاحبها من انحسار موجة التفاؤل التي كانت تتغذى منها التيار الفاعل في الجماعة والذي ينتمي إليه المدونون، وزاد من خيبة الأمل ما بدا لبعضهم من فشل أظهرته قيادة الإخوان في إدارة ملف الإصلاح وما وقعت فيه من أخطاء متكررة -خاصة من القيادة السياسية- في التعامل مع بقية فصائل المعارضة خاصة حركة كفاية والقوى الاحتجاجية الجديدة التي بدا أنها أحرجت الجماعة بجرأة خطابها وحركتها، وكان لأزمة الخطاب الإعلامي للجماعة وخاصة بعض تصريحات مرشدها المتناقضة حينا وغير الموفقة أحيانا دور في الدفع بالتدوين إلى مساحات من النقد الذاتي.
ثم كان -وهذا من أهم الأسباب- لما جرى من تغيير للوزن النسبي لهؤلاء المدونين داخل الجماعة دور مهم في تحولهم إلى النقد الذاتي؛ إذ يمكن النظر للمدونين الإخوان باعتبارهم أفرادا عاديين داخل الصف الإخواني؛ إذ لا يعرف عنهم تبوؤهم لمواقع تنظيمية متقدمة في الجماعة، أفضل ما يمكن أن يميز بعضهم انتماؤه لأسر إخوانية معروفة (مثل إبراهيم الهضيبي أو أسماء العريان..)، وقد نجح هؤلاء في التدوين، وكانت لهم مساهمتهم في تبييض وجه الإخوان إعلاميا خاصة في الإعلام الغربي الذي احتفى كثيرا بظاهرة المدونين الإخوان وثمنها كدليل على تطور الإخوان؛ وكان لابد أن يترجم واقعيا في تعديل وضعيتهم داخل الجماعة، حيث لم يعودوا مجرد أفراد بل تحققت لهم من الشهرة والحضور ما كان يفرض ضغطا على التنظيم لتعديل وضعيتهم وفق معطيات جديدة قد لا تكون ذات أهمية في التراتبية الداخلية ومعايير التصعيد في الصف الإخواني وهو ما لم تقابله قيادة التنظيم التقليدية -في كثير من الأحيان- بتفهم.
وقد واكب ذلك ما عرفته الجماعة في السنوات الأخيرة من زيادة الأهمية النسبية لقطاعات الإعلام -ويلتحق بها التدوين- في مقابل قطاعات تنظيمية ظلت تقليديا صاحبة النفوذ الأقوى. فلجأت -في بعض الأحيان- إلى التدخل ومحاولة السيطرة على هذا "الفلتان" فكان الصدام!
تصاعد تأثير المدونات الإخوانية حتى غطى في تأثيره بل ومصداقيته أحيانا إعلام الإخوان الرسمي خاصة في الدوائر الغربية، وبزغ نجم المدونين الإخوان حتى تعامل معهم الإعلام العربي والغربي كرموز للإخوان وممثلين عن الجماعة في كثير من القضايا والأحداث (نقل فهمي هويدي في مقاله أكثر من مرة عن مدونة متر الوطن بكام)، وصار المدونون رقما حتى داخل الجماعة (صار مكتب الإرشاد يتابع المدونات ويهتم بما تطرحه)، وهو ما ولد توترا في علاقة التنظيم بالمدونين الذين تعدل وضعهم في المجال العام دون أن يترتب عليه تعديل في وضعهم التنظيمي فكان التوتر سببا في انفجارات تنظيمية أثارت قلقا لدى المسئولين عن التنظيم.
لقد كان قسم التربية هو الأكثر إحساسًا بالقلق ومن ثم الأسرع بالتحرك للتعامل مع هذه الظاهرة والسيطرة عليها، فكان محمود عزت الأمين العام للجماعة والأب الروحي لقسم التربية ممثل تيار التنظيم أو الضبط والربط هو أول من بادر بالاجتماع معهم والاستماع إليهم والسعي لربطهم بعمل الجماعة، وتلتها لقاءات أخرى أهمها لقاء محمد مرسي عضو مكتب الإرشاد المشرف على القسم السياسي، وصفها البعض بأنها تأتي ضمن محاولة احتوائهم وإعادة ضبطهم وفق حركة الجماعة.
أتصور أن العلاقة بين المدونين الإخوان والإخوان هي علاقة تمرد داخل الإطار أو المنظومة نفسها للتعديل فيها أو تحسين شكل العلاقة معها أكثر منه تمردا للخروج عليها. "أمواج التغيير" وهي صاحبة السقف الأعلى في النقاش الفكري والحركي تبقى مدونة إخوانية لا تجاوز الأطروحة الإخوانية فكرا وتنظيما حتى ولو حملت شكلا من الذاتية، ولا ترقى إلى اعتبارها حركة احتجاجية، وبقية المدونات الإخوانية تبقى في أشد تعبيراتها حركة نقد ذاتي وليست حركة احتجاجية؛ ومن ثم أمكن ترويض أكثر أصحابها تشددا وإعادة تأهيلهم إخوانيا وضبط علاقتهم من جديد مع الجماعة ولكن بصورة جديدة تناسب وضعهم الجديد وتناسب فكرة التدوين ذاتها وما تفرضه من علاقة مميزة لأصحابها داخل الإخوان.
لقد استطاعت الجماعة إعادة إدماج بعض هؤلاء المدونين أو الناشطين إلكترونيا من الإخوان بشكل عام ضمن المنظومة الإعلامية للجماعة كما في حالة محمد السيد صاحب موقع حماسنا والناشط الإلكتروني الذي بدأ احتجاجيا ثم سرعان ما أدمج في ماكينة العمل الإعلامي للجماعة.
كما استوعبت الجماعة بعض المدونين في ماكينتها الإعلامية والسياسية بما يتناسب مع مواهبهم وإمكاناتهم الذاتية المميزة أو مكانتهم الرمزية في فضاء الجماعة فعهدت إليهم ببعض الملفات والأعمال السياسية والإعلامية كما جرى مع إبراهيم الهضيبي حفيد المرشد السابق وسليل أسرة الهضيبي الإخوانية المعروفة ودارس العلوم السياسية خريج الجامعة الأمريكية.
أو اضطرت الجماعة لسياسة البتر والمفاصلة التنظيمية مع المدونين الذين تجاوز سقفهم الخطوط الحمراء، ولم تفلح معهم محاولات الاستيعاب أو الدمج أو الذين لم يعد فضاء الجماعة قادرًا على تلبية طموحاتهم أو حركتهم كما في حالة عبد المنعم محمود الذي انتقل من التدوين إلى العمل الصحفي معتمدا على تجربته في الإخوان وما أورثته من خبرة، فانتهت الجماعة إلى فصله منها وتعميم القرار على قواعدها بعدما تحول عبد المنعم إلى الإخوان كموضوع لعمله الصحفي وليس كقضية يتبناها.
أما المدونون التقليديون الذين استمروا صوتا للجماعة وقضاياها ومنبرا للدفاع عنها، أو أصحاب الاهتمامات الاجتماعية الملتزمين بالخط العام للجماعة فقد اتبعت الجماعة سياسة التسامح معهم وأحيانا تشجيعهم للاقتراب أكثر من الجماعة كنموذج للتدوين المقبول في الجماعة.
أتصور أن التدوين الإخواني يختلف عن غيره من التدوين فهو يبقي تعبيرا عن الحالة الإخوانية في جماعيتها ورساليتها مهما زادت مساحة الفردانية والذاتية لدى المدون، خاصة إذا علمنا أن الغالبية العظمى من المدونين أبناء أسر بل وقيادات إخوانية وكثير منهم من بنات الإخوان وهن -تقليديا- الأكثر انتماءًً للمنظومة الإخوانية والتزاما بها.
والتدوين هو ضد المنظومة الإخوانية، وضد طريق التثقيف التي تقوم على التثقيف الجماعي النازل من أعلى لأسفل وليس التثقيف المتبادل، نظام الإخوان لا ينتج تدوينا ولا مدونين بالمعنى المقصود للتدوين؛ لأنه يفتح الباب للفردانية، فالتدوين بوح وفضفضة وصراخ أحيانا وفردانية في كل الأحوال. التدوين غير محدد بموقف نهائي فهو تعبير ذاتي وليس تعبيرا جماعيا، المدونون الحقيقيون كان طريقهم خارج الجماعة كما في مدونة (منحدرات) التي تحكي فيها فتاة ابنة لأسرة إخوانية معاناتها مع الإخوانية.. ثقافة وطريقة تربية وسلوكا!
تثبت تجربة التدوين الإخوانية أن لدى الجماعة قدرة على إدارة هذه الظواهر بحيث تظل متعايشة بالقدر المطلوب مع مشروعها على الأقل في ظل انسداد المشهد العام في البلاد، ولكن برغم ذلك وفي كل الأحوال فإن قبضة التنظيم تضعف تدريجيا، بحيث لا تعود علاقته بالأفراد علاقة أمر ونهي؛ بل تحل بدلا منها علاقة تفاوضية يستطيع الأفراد فيها تحسين شروط انتظامهم في الجماعة وتعديل وضعيتهم فيها بإمكانات وميزات لم تكن معتبرة تقليديا. وفي كل الأحوال تبقي مدونات شباب الإخوان إخوانية؛ في بدايتها دفاع صريح عن الإخوان ثم نقد ذاتي لا يجاوز السقف الإخواني!