لماذا لا يكتب الإخوان تاريخهم ؟
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
"صنع الله دعوة الإخوان المسلمين على عينه ، فرسم لها طريقها وحدد لها أهدافها واختار لها الخير في كل خطواتها ومراحلها حتى في حالة الهزيمة والانكسار، بل إن أشخاصها وقيادتها جاءت أشبه بالاختيار الربانى فعكست في أفكارها وتصرفاتها وقرارتها الشخصية وربما صفاتها وأسمائها العناية الإلهية لدعوة الإخوان والتي تضع كل شئ في موضعه ونصابه … لذا لم تكن مصادفة أن يكون ( حسن البنا ) هو المرشد الأول الذى بدأ الدعوة ووضع البناء ! ، و ( حسن الهضيبى ) هو المرشد الثانى الذى قاد سفينة الدعوة في محنتها وتصدى لمن كادوا لها من رجال الثورة فكان ( الهضبة ) التي تحطمت عليها مخططاتهم ومكائدهم ، ثم جاء ( عمر التلمسانى ) بعده فأعاد تجميعها و ( تلمس ) لها خطواتها بعد المحنة الناصرية ، وحل بعده ( حامد أبو النصر ) مرشدًا رابعًا فكان عنوان (النصر) الذى أحرزه الإخوان في النقابات ونوادي هيئات التدريس والمجالس المحلية والبرلمان إلى أن توفاه الله وتولى بعده ( مصطفي مشهور) الذي يضع الإخوان عليه الآمال في أن يعيد (شهرة) الجماعة عالميًا وهو صاحب الجهد الأكبر في بناء وقيادة التنظيم العالمى للإخوان".
تكشف هذه المقولة التي صدر بها أحد الصحفيين الإخوان حواره الذى أجراه مع السيد / مصطفي مشهور عقب توليه منصب المرشد العام للإخوان المسلمين سنة 1996 ، والتي تشيع في الأدبيات الإخوانية ، تكشف عن ملمح أساسى في فكر الإخوان المسلمين ورؤيتهم لحركة التاريخ وصيرورته ، وتفسيرهم لأحداثه ووقائعه حتى تكاد تكون المقولة الكاشفة لما سجله الإخوان من تاريخهم المكتوب بأيديهم أو من وجهة نظرهم خاصة فيما يتعلق بالأحداث الكبرى والمصيرية في تاريخ الجماعة كما هو الحال في ثورة يوليو إحدى المحطات الكبرى في تاريخ الإخوان والتي كانوا طرفا من أطرافها الرئيسية وإن لم يحسم – إلى الآن – حجم ومدى الدور الذى ينبغي أن ينسب إليهم .
وأول ما يلاحظ في تاريخ الإخوان أن المكتوب منه أقل بكثير جدًا من المفترض تدوينه من تاريخ حركة كبيرة امتدت تاريخيًا لأكثر من ثلاثة أرباع القرن العشرين وجغرافيًا باتساع العالم العربي والإسلامى وكانت طرفًا في كثير من أحداثه ومحطاته التاريخية الفاصلة دون النظر إلى تقييم دورها .
وواقعيًا ، لم تكتب جماعة الإخوان تاريخًا رسمياُ لها يمكن أن يُعد مرجعًا معتمدًا للباحثين على الرغم مما تردد كثيرًا في الأوساط الإخوانية عن وجود لجنة شكلتها الجماعة قبل سنوات لجمع تاريخ ومذكرات ووثائق الجماعة وتوثيقها تمهيدًا لإصدار موسوعة تاريخية عن الإخوان.
لذلك ظلت الكتابات الإخوانية في هذا المجال أقرب للاجتهادات الشخصية التي تأخذ – في الغالب – طابع المذكرات وربما المقتطفات والذكريات والخواطر الذاتية منها إلى الكتابة التاريخية المعتمدة ، وربما لم يشذ عن هذا سوى كتاب (الإخوان المسلمون – أحداث صنعت التاريخ) الذى وضعه الراحل محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية للجماعة وأحد قياداتها التاريخية، وصدر في ثلاثة أجزاء تناولت تاريخ الجماعة منذ تأسيسها سنة 1928 إلى وقت خروج قادتها من السجون الناصرية في عهد السادات. ورغم أن الكتاب صدر في أوائل الثمانينات بمقدمة للسيد / مصطفي مشهور وكان نائبًا للمرشد وهو تقليد يُفهم منه قبول قيادة الجماعة لمضمون الكتاب وتوثيقها له، إلا أن نائب المرشد رفض صراحة في المقدمة إسباغ صفة الرسمية على الكتاب واعتماده من الجماعة معتبرًا أنه محاولة فردية من وجهة نظر صاحبها فقط !؛وذلك على الرغم من أن الكتاب صار المرجع الأول لجميع الباحثين في تاريخ الإخوان والأكثر تداولًا في الأوساط الإخوانية أيضًا.
ويبدو أن الجماعة ترفض أو لا تفضل اعتماد كتاب بعينه يؤرخ لتاريخها على النحو الذى تفعله عادة في الكتب الموجهة لأعضائها في مجالات أخرى غير التاريخ – كالدعوة والتربية والإنضباط التنظيمى …إلخ؛ حتى لا تكون مسئولة مباشرة عن كل ما ورد فيه من أحداث ووقائع ويكون أمامها مساحة واسعة للحركة والاختيار تتيح لها التنصل مما لا ترغب في تحمله ، فتصبح كل هذه الوقائع والأحداث على عهدة كاتبها فقط ومن وجهة نظره فحسب !!
وباستثناء كتاب محمود عبد الحليم جاءت غالبية كتب الإخوان التاريخية أقرب إلي الذكريات وربما الحكايات والحواديت كما في كتب عباس السيسى؛ خاصة سلسلته ( في قافلة الإخوان المسلمين ) التي- علي رغم أهميتها- ضمت في مجملها مجموعة من الحكايات تتحالف جميعها على نقل صورة نموذجية طوباوية لمجتمع الإخوان وتحمل دائمًا مغزى دعويًا للعوام وتوجيهيًا للصف الإخوانى .
وقد توزعت هذه الكتابات – والتي خلا معظمها من الوثائق – على موضوعات أو أحداث ووقائع لا ينتظمها توجه أو مسار بعينه ،فأرخ بعضها لسيرة مؤسسها مثل : (الملهم الموهوب – حسن البنا) لعمر التلمسانى ، و(الشيخ حسن البنا ومدرسة الإخوان المسلمين) لرؤوف شلبى ، و ( الإمام ) لأحمد أنس الحجاجى، و (خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه ) لجمال البنا ، و(لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا) لعبد المتعال الجبرى …إلخ
وربما اختصت هذه الكتابات بأحداث بعينها مثل قضية فلسطين التي كان أبرز ما كتب عنها كتاب (الإخوان المسلمين وحرب فلسطين) للقطب الإخوانى المصرى ثم الأردنى كامل الشريف، والسوري مصطفي السباعي ، وربما اقتصرت على جانب أو قضية بعينها تتعلق ببناء الجماعة وحركتها ونشاطها ووضعها القانوني أو دورها السياسي ، فظهرت كتب عن صحافة الجماعة أهمها (صحافة الإخوان المسلمون) لشعيب الغباشى، وأخرى عن الوضع القانونى والسياسى مثل ( الإخوان المسلمون – أحداث تاريخية ) لإبراهيم زهمول ، أو التنظيم السرى للجماعة مثل (حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين) لمحمود الصباغ ، و (النقط فوق الحروف : الإخوان المسلمون والنظام الخاص) لأحمد عادل كمال ، أو تناولت دورهم الاجتماعى مثل (الإخوان المسلمون والمجتمع المصرى) لمحمد شوقى زكى ، أو نشاطهم ورؤيتهم للريف المصرى مثل (الإخوان في ريف مصر) لأحمد البس أو نشاطهم في البرلمان : مثل كتاب (الإخوان في البرلمان ) لمحمد الطويل ، و(الإخوان تحت قبة البرلمان ) لمحسن راضى ... إضافة إلى عدد قليل من المذكرات الشخصية لبعض قيادات الجماعة أو أعضاء سابقين فيها .
والمفارقة أن ما كتبه الإخوان عن علاقتهم بثورة يوليو وما سبقها وتلاها من أحداث وتداعيات يعد قليلا جدًا ولا يتناسب مع ضخامة الحدث وتأثيرهم فيه وتأثير الثورة عمومًا على الجماعة وهو لا يتجاوز عدة كتب ودراسات محدودة تمت – كالعادة – بمبادرة من أصحابها أو جاءت عبارة عن ملاحظات وذكريات مبثوثة في بعض المذكرات و(السير) الإخوانية ، وأهم ما كتب في ذلك مذكرات اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف أحد ضباط الإخوان الذين شاركوا تنظيم الضباط الأحرار في الثورة ( أرغمت فاروق على التنازل عن العرش ) ، وكتاب زميله حسين حمودة ( أسرار الضباط الأحرار والإخوان المسلمون ) وكتاب حسن العشماوى ( الإخوان والثورة ) ، وكتاب المرشد الثالث عمر التلمسانى (قال الناس ولم أقل في عبد الناصر) و؛ ( حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر) للمرشد الرابع محمد حامد أبي النصر، والكتابان تجميع لمقالات صحفية إضافة إلي كتب أخرى عالجت موضوعات وأحداث بعينها في علاقة الإخوان بالثورة مثل ( البوابة السوداء ) لأحمد رائف ويتحدث فيه عن محنة الإخوان في سجون ناصر ، و(الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965) لأحمد عبد المجيد.. وغير ذلك لا تجد كتبا تعرضت لعلاقة الإخوان بالثورة بشيء من التفصيل والتوضيح سوى ما تناثر في الكتب العامة أو المذكرات والذكريات الشخصية مثل ( حصاد العمر ) لصلاح شادى؛ و( ذكريات لا مذكرات ) لعمر التلمسانى، و (أيام من حياتى ) لزينب الغزالى، و(خمسون عامًا من العمل الإسلامى ) لتوفيق الشاوي..وغيرها.
وتكمن المشكلة الأساسية فيما كتبه الإخوان عن تاريخهم مع ثورة يوليو في العمومية التي تعلن مواقف مبدئية تحمل الإدانة بالطبع أكثر مما تقدم معلومات ووقائع تفصيلية، ويغلب عليها صيغة ( الحكي ) أكثر من تقديم الوثائق وتحقيق الوقائع والتواريخ وهى أقرب إلى رؤوس الموضوعات منها إلى التحليل التفصيلى للأحداث والوقائع والشخصيات المرتبطة بتاريخ علاقة الإخوان بالثورة.
فلا نجد في هذه الكتب إجابات محدودة عن أسئلة حقيقية ورئيسية مثل: علاقة الإخوان بعبد الناصر وبقية الضباط الأحرار. كيف بدأت تحديدًا ؟ وكيف ولماذا تحولت علاقتهم- الضباط الأحرار- من تابع للجماعة إلى قيادة تنظيم مستقل ومهيمن يسعى للتفاوض معهم باعتبارهم ( الإخوان) مجرد سند أو شريك مفترض على أفضل الأحوال؟ ولا نجد إجابات عن: كيف تغيرت الانتماءات الأيدولوجية لهؤلاء الضباط من التوجه الإسلامى إلى توجهات أخرى مختلفة بل ومتناقضة إلى حد اعتناق بعضهم للماركسية كما فعل خالد محى الدين؟! كما تغيب الحقائق المتعلقة بكيفية سيطرة عبد الناصر على أفراد الإخوان في الجيش إلى حد فصلهم عن قيادتهم الإخوانية وضمهم لتنظيمة الجديد . كما تتضارب المعلومات الواردة بشأن موقف قيادة الإخوان الرسمية ممثلة في مرشدها حسن الهضيبى من الثورة : هل وافق عليها وقبل بالتعاون معها على رغم كراهيته للعسكر ؟ ثم لماذا تراجع بعد ذلك وتحولت العلاقة إلى صدام بدلًا من التعاون ؟ كذلك فيما يتعلق بمحمد نجيب: لماذا تحالف الإخوان معه ضد ناصر ؟ ثم لماذا ساءت العلاقات بينهم إلى حد نقده الشديد لهم في مذكراته ؟ ونجد تعميه وتمويه شديد على التماسك الداخلي في الإخوان وخاصة في موقفهم من الثورة فتغيب المعلومات عن الانقسامات التي حدثت بسببها ، كيف تلاعب ناصر بالجماعة وأحدث انشقاقًا عن طريق عبد الرحمن السندي ورجاله في التنظيم السري ؟ وكيف نجح في استثارة إخوان الأزهر ضد قيادة الجماعة إلى حد استقطاب شخصيات مثل محمد الغزالى و أحمد حسن الباقورى وعبد المعز عبد الستار وسيد سابق؟ وكيف نجح في تحريض أكثر من سبعين من أعضاء الهيئة التأسيسية المائة ضد مرشدهم إلى حد اجتماعهم وإعلانهم إقالة مجلس الإرشاد؟!.
وهناك غموض أيضًا فيما يتعلق بشخصية المرشد الثاني حسن الهضيبى والظروف التي تولى فيها قيادة الجماعة وموقفه من الثورة وما قيل عن توريطه الجماعة في صراع مع الضباط الأحرار ، وكذا فيما يتصل بقدرته على القيادة وما قيل عن الفراغ الذى أوجده توليه منصب المرشد .
أيضًا هناك غياب كامل لحقيقة النظام الخاص ومسئولية قيادة الجماعة عن الانحرافات وعمليات العنف التي نسبت إليه وهل تمت بعلمها أم دون إرادتها ، وهل كانت مرتبطة بمرحلة الاستعمار أم كان مخططًا لها الاستمرار بعد الثورة ؟ ومدى مسئولية الجهاز عن التصفيات التي طالت خصومه أثناء الخلاف بينه وبين قيادة الجماعة مثلما حدث في اغتيال سيد فايز ؟ ومدى ضلوع الجماعة أو أفراد منها في حادث المنشية ثم تورط أعضاء تنظيم 1965 في التخطيط لعمليات عنف ضد النظام الحاكم..
وغياب المعلومات التفصيلية والكاملة للوقائع والأحداث ليس المعضلة الوحيدة في كتابات الإخوان عن علاقتهم بالثورة فهناك مشكلة أكثر خطورة تتعلق بالمنهج نفسه الذى يضفي على تاريخ الإخوان طابعًا من القداسة المستمدة من كونه – بكل عيوبه ومميزاته وإنجازاته وإخفاقاته وخطئه وصوابه – نتيجة للعناية الإلهية والتدبير الرباني الذي لا يقدر لدعوة الإخوان وجماعتها إلا الخير، ومن ثم تكاد تنتفي مسئولية الأفراد والقيادات عن الأحداث ونتائجها ، وتغيب أى جهود لتقييم قدرات البشر وحدود أدوارهم في هذه الأحداث ، فيتلبس الجماعة وأشخاصها – كثيرًا عن غير وعي – شعور بالاصطفاء الإلهى تتحول معه إلى معسكر الحق والخير والإيمان في مقابل قوى الباطل والشر والكفر، لكن دون أن تتورط الجماعة مباشرة في ورطة التكفير أو تنزلق فيها .
لذلك فإن من يعكف على قراءة ما كتب في صراع الإخوان والثورة لا يشعر أنه صراع سياسى دنيوى بين طرفين أو خصمين- أيًا كان تقييمنا لكل منهما- بقدر ما تسيطر عليه أجواء معارك الكفر والإيمان .ويتجسد هذا المعنى بأوضح صورة في كتاب المرشد الرابع حامد أبو النصر ( حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر ) ، فالصراع في رأيه ودون أدنى مواربة صراع إيمان وحق مع كفر وباطل ، سواء في قراءته للأحداث أو تحليله للمواقف والأشخاص ، وهو ما يبدو مباشرًا في استشهاداته القرآنية التي يختم بها كل فصل تحت عنوان ( التوجيه الرباني )؛ فخلاف بعض أفراد الجماعة مع قياداتها في مسألة سياسية كالعلاقة مع الضباط الأحرار ليس- في كتابه- إلا تفتيتًا لوحدة الجماعة وخروجًا على مقتضيات الدين يوشك أن يحولهم إلى مشركين (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ! والمناورات السياسية التي قام بها عبد الناصر مع قيادة الإخوان واستطاع أن يتغلب بها عليهم تخرجه أيضًا عن الإيمان ( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول )!، كما كان خروجه عن الجماعة هو ومجموعة الضباط الأحرار رحمة بالإخوان ( ليميز الله الخبيث من الطيب ) ! … وهكذا … حتى الضربات التي أصابت الجماعة وأضرت بها من جراء الصدام غير المحسوب مع النظام الناصري ليست سوى ابتلاء رباني جاء ( ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) !
ويستمر الكتاب في سرد وقائع معركة الإيمان والكفر دون أن يخرج منه القارئ – بما فيهم الإخواني – بإجابة شافية لأسئلة مهمة تحاول كلها تفسير فشل الجماعة الإخوان في التعامل مع مجموعة الضباط الأحرار بحيث تحولت لتصبح الضحية الأولى للنظام الجديد – نظام الثورة – بعد ما كانت المرشح الأول – على الأقل في نظر الإخوان أنفسهم – للاستيلاء عليه، وكان الأولى بهذه المذكرات أن تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل: كيف ولماذا فقدت الجماعة مجموعة الضباط الأحرار التي كانت جزءًا منها ؟ ومن المسئول عن تصعيد الخلاف معها إلى الصدام ؟ ومن المسئول عن استقالة عدد من كبار شيوخ الجماعة أو إقالتهم في هذا الصدام ؟ وكيف كان من الممكن تجنب السجون والمعتقلات والتضحية بعشرات الآلاف من أبناء الإخوان … وغيرها من الأسئلة التي يفترض أن يطرحها أى تنظيم على نفسه بعد إخفاقه في معركة سياسية مهمة كالثورة .
ويقر الإخوان بضآلة ما كتبوه عن تاريخهم خاصة حينما يقارنونه بما صدر من كتب عن تاريخ تيارات سياسية أخرى تعد – في رأيهم – أقل حجمًا وتأثيرًا من الإخوان ، لكنهم يعزون – دائمًا – ذلك لأسباب خارجة عنهم أهمها الملاحقات الأمنية التي استمرت دون انقطاع عبر تاريخ الجماعة وتحولت في بعض الأحيان إلى تصفيات شاملة لها مثلما حدث في سنوات 1949 ، 1954 ، 1965، وهو ما حال -من وجهة النظر الإخوانية- دون القدرة على التسجيل الدورى لتاريخهم بسبب خطورة الاحتفاظ بالوثائق أو تسجيل اليوميات وتدوين الأحداث التى قد تتحول لوثيقة إدانة لصاحبها في حال وقوعها في يد السلطة ، كما يتعللون أحيانًا بالخوف من السقوط في فخ المعارك السياسية والإيدلوجية التي قد تستغل فيها بعض الكتابات وتوظف لصالح الهجوم عليهم كما هو الحال بالنسبة لتاريخ النظام الخاص ثم التنظيم السري؛ حيث يمتنع كثير من قادته ومعاصريه عن الإدلاء بشهادتهم بشأنه خوفًا من أن يرسخ الاتهام الموجة للإخوان بمسئوليتهم عن ظهور العنف الدينى المسلح واعتبارهم ( العباءة ) التي خرجت منها كل تنظيمات العنف الإسلامية، ويبدون تخوفهم من أن تستخدم شهادتهم كمخلب قط في الحملة الإعلامية الموجهة للإخوان .
وقد تبدو هذه المبررات معقولة إلي حد ما رغم أن فترات الاستقرار والأمن النسبي التي عاشتها الجماعة طوال العقود الثلاثة الماضية وامتلاك الجماعة لمؤسساتها الإعلامية الخاصة التي يمكن أن تدير معركة الدفاع عن تاريخها يمكن أن يرد على هذه المبررات ؛ لكننا يمكن أن نرصد أسبابًا تبدو أكثر منطقية لهذا الامتناع وهى في مجملها أسباب داخلية ربما كانت غير معلنة لكنها مهمة.
أول هذه الأسباب طبيعة الكوادر والقيادات الإخوانية التي تختلف إلى حد كبير عن مثيلاتها في الحركات السياسية الأخرى وخاصة اليسارية ، فهى ذات طبيعة تجعلها غير مؤهلة – في كثير من الأحيان – لكتابة مذكراتها وتدوين خبراتها فالتكوين الثقافي الإخواني قائم – في الأغلب – على التلقي الشفهي ومن خلال دروس الوعظ والخطابة ، وقليلًا ما تكون عبر القراءة الفردية ، كما أن نشر رسالة الإخوان الأيدولوجية ومنها الرسالة التاريخية تم ويتم دائمًا عبر أساليب دعوية تحتل فيها الخطابة – وليس القراءة - المساحة الأكبر ، إضافة إلى قله الكتاب والقادرين على الكتابة الاحترافية في حركة الإخوان إلى حد الندرة؛ على الأقل من حيث الوزن النسبي في تركيب الجماعة نفسها خاصة إذا ما قورنت بحركات سياسية أخرى احتل المثقفون والكتاب فيها الصدارة واستأثروا بالوزن الأكبر نسبيًا؛ كما هو الحال في التنظيمات اليسارية – مثلًا – التي ساعدتها هذه الميزة على ترك تراث تاريخى كبير يفوق في كثير من الأحيان حجم التنظيم ومساحة الدور الذى لعبه .
وتضافر الفراغ الذى أوجده تراجع وزن المثقفين في تركيبة الجماعة لمصلحة الحركيين ثم المشايخ مع عدم وعى مثير من القيادات الإخوانية لخطورة الدور الذى لعبته تاريخيًا وأهمية المساحات التي تحركت فيها، وهو ما أدي إلي وجود حالة من غياب الإحساس بأهمية تسجيل الأحداث وتدوين التاريخ وساعد على ذلك انتماءات الكوادر والقيادات الإخوانية إلي شرائح مهنية واجتماعية كانت متوسطة غالبًا ودنيًا أحيانًا .
وهناك أيضًا الفهم الخاطئ لبعض المعاني والأخلاق الإسلامية والذى أدى إلى امتناع كثير من القيادات الإخوانية عن تسجيل مذكراتها أو الحديث عن أدوارها – وكثيرًا ما كانت مهمة – وذلك بدافع(الورع ) و ( الخوف من الرياء ) ففضلوا التكتم عليها باعتبارها ( جهادًا ) و ( تضحية ) يطلبون بها وجه الله وليس الشهرة والسمعة وغاب عنها أنها شهادة لله على التاريخ.
كما رفض بعضهم الحديث عن وقائع الانحراف المالي والإداري والأخلاقي أحيانًا والذي نسب لبعض قيادات الجماعة بدعوى أنها ( فتنة ) لا يجب الخوض فيها كما فعل عمر بن عبد العزيز حينما امتنع عن الكلام في ( الفتنة الكبرى ) بين علي ومعاوية قائلًا : ( تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا وندعوه أن يعصم منها ألسنتنا ) . وقد رفع الإخوان هذا الشعار وألزموا به أنصارهم وتوسع أحيانًا ليشمل تقييم الكفاءات والقدرات الشخصية باعتباره نوعًا من التجريح والغيبة المؤثمة شرعًا ، ولم يخرج عن هذا المنع إلا القليل، واكتفى غالبًا بالتعريض أو الإشارة من بعيد كما فعل محمود عبد الحليم عندما كتب عن عبد الحكيم عابدين زوج شقيقة الشيخ حسن البنا والسكرتير العام للجماعة الذى نسبت إليه انحرافات أخلاقية أدت إلى انشقاق عدد من الإخوان عن الجماعة مبكرًا ، وحتى حينما كتب محمود عبد الحليم عن هذا الموضوع ونفاه اختار له عنوان( الفتنة ) ! وغاب عن الإخوان أن تقييم الشخصيات العامة والمسئولة ليس تجريحًا أو غيبة ( وهو ما يفعلونه مثلًا مع من هم من خارج الصف الإخوانى !! ) خاصة إذا كان للانحرافات المنسوبة إليها تأثيرات تاريخية كما حدث. كما تجاهلوا أن التاريخ الإسلامى حفظ لنا وقائع من الانحرافات والاتهامات المنسوبة لكبار الشخصيات الإسلامية كما هي؛ بما فيها أسماء الصحابة الذين تورطوا بالطعن في عرض السيدة عائشة رضي الله عنها فيما عرف بحديث الإفك .
وقد لاحظت ذلك شخصيًا حينما كنت أسجل مذكرات اللواء أبو المكارم عبد الحى قائد تنظيم الإخوان بالجيش عشية الثورة، فحين تطرق حديثه لعبد الحكيم عابدين أكد ما نسب إليه من انحرافات أخلاقية وقدم شهادته عليها ثم تحدث عن انحرافات مماثلة ، أخلاقية ومالية وإدارية لعدد من قادة الإخوان في المنفى حتى إذا ما أخذ الحديث مجراه توقف طالبًا عدم الخوض فيها لأن الجميع ( في ذمة الله ) ولأن ( الستر واجب في هذه الأمور ) .
ومن الأسباب التي حالت دون كتابة تاريخ الإخوان أيضًا استمرار المشروع الإخوانى وعدم انتهائه أو التراجع عنه ، فكتابة تاريخ للأحداث والجماعات يأتي غالبًا عقب نهايتها أو تجاوزها أو انتقالها إلى مرحلة جديدة كما حدث مثلًا في التنظيمات الشيوعية؛ بينما ما زال الإخوان يقدمون مشروعهم الأيدولوجي باعتباره القادر على الاستمرار، ومازالت قيادة الجماعة تؤكد الانتماء لهذا المشروع بكل تفصيلاته التي وضعها مؤسسه الأول حسن البنا قبل أكثر من نصف قرن ، فهي لا تنظر إليه كمرحلة تاريخية انتهت ويجب دراستها والاستفادة منها؛ كما لا تعتبر أن المشروع بحاجة إلى إعادة نظر أو تعديل؛ بل تراه رحلة ممتدة لم تنقطع بكل شخوصها وأحداثها وأفكارها وساعد على ذلك أن القيادات الحالية للجماعة تستمد الجزء الأكبر من مشروعيتها من تأكيدها على هذه الاستمرارية ونقل رسالة السلف إلى الخلف بكل تفصيلاتها وأنها شاركت في تأسيس وتعلية هذا البناء وتثبيت أركانه ، حتى صارت جزءً من تاريخ الجماعة نفسها ، ومن ثم فهي لا تقبل بأى مساس بها حتى ولو بمذكرات أو كتابات تاريخية عن وقائع وأحداث ( قد ) تفسر لغير صالح الجماعة أو تنتقص منها ولو على مستوى تقييم الأداء والقدرات الشخصية وتحديد المسئوليات التاريخية .
ولا يقتصر ذلك على القيادات التاريخية التي ما زالت على قيد الحياة وإنما يمتد إلى بقية قيادات وأجيال الجماعة التي تنتمي جميعها - بصيغة أو بأخرى- للمشروع الإخوانى الذى زاد عمره عن السبعين دون أدنى تعديل أو مراجعة في شخوصه وأحداثه وأفكاره .
وربما كان ها هو السبب نفسه في إحجام قيادات تاريخية لها وزنها ومعروفه بقدرتها على الكتابة عن تسجيل مذكراتها رغم أهميتها مثلما هو الحال بالنسبة للسيد / مصطفي مشهور المرشد الراحل الذى كان يؤهله عمره قبل رحيله ( 82 عامًا ) والدور التاريخى الذى لعبه في الجماعة للكشف عن كثير من الأسرار التاريخية الغامضة خاصة تلك المتعلقة بالتنظيم الخاص الذى كان واحدًا من رموزه وله معه قضيه السيارة الجيب الشهيرة ، غير أن هذا لم يحدث ربما بسبب استمراره في قمة القيادة لوقت وفاته.
والملاحظ أن الغالبية العظمى ممن سجلوا شهادتهم عن تاريخ الإخوان هم ممن تركوا الجماعة ولو على المستوى التنظيمى وابتعدوا ( أو أبعدوا ) عن مواقعهم في سدة القيادة وهو ما سمح لهم بإعادة النظر والتقييم ( ولو بدرجات متفاوته فيما بينهم ) ومن ثم جاءت شهادتهم أكثر قيمة من شهادات غيرهم التي غلب عليها الطابع الدعائى في معظم الأحيان غير أن هناك سمة تكاد تكون قاصرة على جماعة الإخوان وهى أن الخارجين عنها يظلون – في الأغلب – جزءً من المشروع الإخواني رغم انفصالهم عن التنظيم وربما خلافهم معه لذلك تبقى مساحة ( المشترك ) أوسع بكثير من الخلاف وتظل هناك ( صلة ما ) تدفع بالكثيرين منهم إلى الحرص على بقاء الجسور مع الجماعة حتى لو اضطرها ذلك إلى تأجيل إعلان رأيها أو كتمانه حرصًا على هذه ( الصلة ) ، وقد يضطرها إلى ذلك منطق تقسيمات الانتماء الإيديولوجي في الحياة الثقافية والسياسية في مصر والذي لا يسمح لأحد من الخارجين عن الإخوان بأن يظل إسلاميًا دون أن يلحق بالتصنيف ( الإخوانى ) ، وهو ما يجعله (إخوانيًا ) رغم أنفه فيسكت سكوت المكره ، ويعود للملمة أطراف وبقايا علاقته بالإخوان خاصة إذا ظل منتميًا للمشروع الإسلامي، وفي هذا الإطار يمكن فهم موقف الشيخ محمد الغزالى الذى كتب بعد فصله من الجماعة سنة 1954 كتابه العنيف وغير المعروف في نقد الإخوان ( من معالم الحق ) وضمنه أشد الاتهامات قسوة للجماعة ومرشدها ثم سرعان ما عاد – في ظل معارك الاستقطاب الإيديولوجي – وأعاد صلاته بالإخوان ( الصلات غير التنظيمية ) واستمر كأحد دعامات المشروع الإخواني رافضا إعادة طبع هذا الكتاب أو حتي ذكره.
ومن الأسباب التي تدفع ببعض الإخوان إلى ( الصمت ) فيما يخص تاريخ الإخوان أن كثيرًا من الأحداث التاريخية لم تنته تداعياتها بعد ، ويمكن للفرد أن يدفع ثمنها رغم أنها صارت في ذمة التاريخ كما هو الحال في قضايا العنف والانضمام إلى تنظيمات مسلحة كالنظام الخاص قبل الثورة والذى تحول إلى التنظيم السرى بعدها ، فبعض أعضائه يخشى من أن تؤدى شهادته بشأنها إلى ملاحقته وآخرين ، ليس أيدلوجيًا هذه المرة وإنما سياسيًا وقانونيًا خاصة في ظل توجه العداء المتصاعد من الحكومات والأنظمة للجماعات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان ، وأذكر أن أحد القيادات التاريخية صارحنى في حديث خاص بأنه لا يفضل نشر مذكراته في حياته لهذا السبب ، وإمعانا في ضمان ذلك احتفظ بذكرياته المسجلة على أشرطة كاسيت لدى بعض أصدقائه خارج مصر !! ، كما رفض اللواء أبو المكارم في مذكراته التي سجلها معه ذكر أسماء بعض الضباط الأحرار الذين ساعدوه في الهرب والنجاة من العمليات التي قامت بها أجهزة المخابرات في العهد الناصري للقبض عليه ، وأشار إلى أن بعضًا منهم مازالت له علاقاته ووجوده في السلطة وربما يطاله الأذى بسبب ذلك !!
لكن ، لو فرض وقرر الإخوان الإدلاء بشهادتهم كاملة وكتابة تاريخهم خاصة فيما يتعلق بعلاقتهم مع الثورة، فهل هناك من يمكنه الإضافة وتقديم شئ جديد خاصة وأن الجيل الأول الذى شهد هذه الأحداث أوشك على نهايته ولم يتبق منه سوى أعداد قليلة بعضها يعجزه أرذل العمر عن تذكر ما حدث فضلًا عن كتابته ؟!
المعلومات المتاحة تقول إن هناك شخصيات لديها ما تضيفه بالفعل لو قررت الشهادة ولم تتراجع عن موقفها الرافض للبوح بالتفاصيل . فهناك أشخاص مثل الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد والشيخ عبد المعز عبد الستار يمكن أن تقدم شهادتهم الجانب الغامض حول إخوان الأزهر وموقعهم من الثورة وانحياز قطاع كبير منهم إلى عبد الناصر في صراعه مع قيادات الجماعة، وكذلك د / مصطفي مؤمن الذي يمتلك ثروة من المعلومات فيما يتصل بالشئون والعلاقات الخارجية للإخوان خاصة بعد تفرقهم في المنفي في العهد الناصرى ، وكذلك ما يتعلق بموقف الرافضين من الإخوان للتعاون مبدئيًا مع الثورة منذ بدايتها ، وهناك د / جمال الدين عطية أحد الذين كانوا قريبين من حسن البنا في أواخر أيامه ويمكنه الحديث عن اتجاهات التجديد الفكري داخل الجماعة والتي كانت تعارض توجهات العنف المسلح للنظام الخاص . وهناك أيضًا نفيس حمدى أحد رموز النظام الخاص وشخصياته الغامضة والتي لم تبح بكلمة واحدة عن هذا النظام …… وكذلك فريد عبد الخالق أحد مهندسى العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر والذى لم يكتب إلى الآن شيئًا تفصيليًا ويصر على كتمان المفيد والمهم من معلومات في هذه العلاقة مكتفيًا بالعموميات التي لا تشفي غليلا.
كما كشف النقاب مؤخرًا عن وجود مذكرات شخصية لعدد من القيادات التاريخية الراحلة لم تنشر بعد منها أوراق شخصية للدكتور عبد العزيز كامل أحد أهم القيادات الإخوانية التي انحازت للثورة فعينه عبد الناصر وزيرًا للأوقاف ، وكذلك عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة وزوج شقيقة حسن البنا وهو شخصية خلافية ومهمة، والمستشار صالح أبو رقيق واحد من الستة الذين احتكروا إدارة ملف العلاقة مع الثورة بإضافة إلى مذكرات اللواء أبو المكارم عبد الحى قائد تنظيم الإخوان بالجيش عشية الثورة والذى ظل هاربًا من حكم الأعدام مدة عشرين عامًا وكان لي حظ تسجيلها، وربما تنشر كاملة عن قريب.
وكل هذه المذكرات تتضمن معلومات جديدة ومهمة للغاية يمكن أن تغير المستقر تاريخيًا عن ثورة يوليو ودور الإخوان فيها، فهل ينطق الإخوان ويكشفون تاريخهم الحقيقى والمسكوت عنه مع ثورة يوليو أم يظل قرار الفرار إلى الصمت؟.
أعدت هذه الدراسة في ذكري مرور نصف قرن علي ثورة يوليو 1952 ونشرت في فصلية "المنار الجديد"؛ عدد 22 لربيع عام 2003