دراسات الظاهرة الإسلامية: نظارات سوداء، وردية..وعمى للألوان
باحثة من الجزائر
يبدو انه من قدر الباحث المبتدئ في حقل الحركات الإسلامية أو ما اصطلح على تسميته بالإسلام السياسي وبغض النظر عن القلق المنهجي الذي تسببه مثل هذه التسمية، من قدره أن يتواجه مع الأطروحات المختلفة والمتناقضة في اغلب الأحيان التي تتناول الحركات الإسلامية وموقعها ومستقبلها بالتحليل والدراسة، لدرجة يصعب فيه الحديث عن موضوعية أكاديمية ممكنة في هذا التخصص. يجبر الباحث المبتدئ هذا، يناء على ذلك، على ارتداء كل أنواع النظارات: سوداء بقدر التحاليل التي تصبغ على الإسلاميين لونا سوداويا ظلاميا، وأخرى وردية لمن يعتبرونهم منزهين ومالكين لمفاتيح حل المشكلات جميعا. في النهاية يصاب الباحث بعمى للألوان كامل وهو يتحسس طريقه للفهم والتفسير.
في سنة 1978 كتب الأستاذ الفلسطيني الأصل الأمريكي الجنسية، "ادوارد سعيد"، كتابه الشهير عن الاستشراق. يفاجأ القارئ بقدرة الكاتب على تحليل بنية الخطاب الاستشراقي وتأثيره على منظومة العلوم الاجتماعية التي كان من المفروض أن تكون أكثر العلوم محايدة في تناول قضايا الشرق، باعتبار أنها تعتمد المنهج والنظرية العلمية مطية للوصول إلى الحقيقة. وفتح "ادوارد سعيد" أعيننا على ما يمكن تسميته امبريالية علمية تنشئ العلم لفائدة المنفعة لدرجة اختراع مصطلح كامل أصبح محل تخصص الباحثين والدارسين: الشرق.
لم يقصد ادوارد سعيد طبعا التشكيك في نزاهة العلم الأكاديمي الموضوعية لكنه وضع الحجر الأساس لما يجب أن يدركه الباحث وهو يستطلع المناهج والنظريات الغربية المنشأ، وضرورة تبيئتها وعزل متغيراتها المنشئية بغية الوصول إلى الحقيقة العلمية في البيئة المدروسة.
وإذا كان الوضع على هذا الحال في الدراسات الاجتماعية، فكيف بالأمر في البعد الحضاري الذي يميل إلى قياس الظاهرة بمقاييس ثقافية تجعل الدين والثقافة شماعة يسهل تعليق أسباب الفشل والتخلف عليها. ويجد الباحث نفسه في مشقة وهو يحاول التخلص من التصنيف في أي خانة وهو يكتب عن هذا الموضوع الذي أصبح موضة البحث العلمي منذ انتهاء الحرب الباردة بشكل خاص.
لفت انتباهي وأنا أحاول التخلص من هذا القلق المنهجي تحليلان هامان: الأول للأستاذ "رضوان السيد" وهو يقابل بين شمولية الفكر السياسي الإسلامي في فترة الستينيات والسبعينيات وبين شمولية واقصائية الفكر القومي العربي في نفس المرحلة، وكيف أن دخول حركة الإخوان المسلمين حلبة السياسة في حياة مرشدها الشيخ "حسن البنا"، ترتبط بطبيعة المناخ التعددي لتلك المرحلة، في حين يرتبط الفكر القطبي بالصراع الإيديولوجي الدولي الذي انعكس على قضايانا المحلية. التحليل الثاني هو للأستاذ "حسام تمام" الذي يربط بين طبيعة التنظيم الاخواني وفكره وبين طبيعة الدولة المصرية وتصورها لدورها في الساحة العربية؛ احتضن التنظيم فروعا خارجية تماما مثلما لم نزل لوقت قريب نعتبر مصر أم الدنيا وراعية القضايا العربية.
إشكالية مصطلح..
ظلت أي محاولة لدراسة الحركات الإسلامية لا تنفصل عن الإطار الذي رسمه تيار من الباحثين الذين تصدوا للموضوع منذ بداية الثمانينيات. وهو الإطار الذي ظل يركز على أسباب ظهورها والتربة التي أدت إلى نشوئها، على الأقل إلى غاية أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي طرحت لأول مرة مسالة تجاوز الحديث عن أسباب ظهور الحركات الإسلامية باتجاه البحث في كيفية التعامل معها. وهو ما شكل نقلة نوعية في التناول يلفت الانتباه إلى الاعتراف الضمني باستحالة استئصالها أو تحييد آثارها العابرة لحدود مجتمعاتها ودولها.
يفضل الغرب عادة استخدام مصطلح Islamisme Politique للإشارة إلى الظاهرة الجديدة التي ميزت العالم الإسلامي منذ منتصف السبعينيات والتي عرفت أوج تمظهراتها مع الثورة الإيرانية التي نقلت إلى التحليل، مسالة دور الدين في التعبئة السياسية الموجهة لغرض البناء السياسي في حين ظل نموذج الدولة القومية مبنيا على النموذج العقلاني الذي يستبعد أي دور له. وفيما احتفظت المجتمعات بصفة "المسلمة" Musulmanes، أضيف إلى الحركية التي تتخذ من الخطاب الديني شعارا للتعبئة، صفة "الإسلامية" Islamiques . وتظهر هنا بوضوح الرغبة في الفصل التحليلي بين طبيعة هذه الحركية وبين بيئتها المنشئية باعتبار الأولى قائمة على إيديولوجية ثورية تستهدف عادة قلب النظام القائم، بين ما يسمى اليوم بالإسلام الحضاري الذي يجد توصيفه داخل المجتمع في مواجهة الإسلام السياسي الذي يعبر عن الاستخدام الثقافي الإيديولوجي لقطاع منه.و بالرغم من أن مصطلح الايسلاميزم الذي استخدمه "ارنست رينان" لأول مرة في القرن التاسع عشر، كان يستخدم للإشارة إلى الإسلام بشكل عام، إلا أن النظرة السلبية المرتبطة بالتراجع الثقافي بقيت قائمة.
يؤدي الفصل التحليلي إلى الإسلام باعتباره معتقد culte إلى نظرة تجزيئية لموقعه في المجتمع. يفسر الانكفاء إلى الدين باعتباره نكوصا ورد فعل تجاه التحديث الناتج عن الاتصال بمنجزات التطور الصناعي والتقني محولا "الإسلامية" إلى حركة أصولية ذات طبيعة ثقافية هدفها العودة إلى الماضي، وهي بذلك لا تخرج عن إطار السياق الازموي الذي ظهرت فيه؛ سياق رد الفعل. لكن عموم الدين لكثير من مظاهر الحياة في المجتمع بالإضافة إلى غياب مؤسسة واضحة قادرة على احتكار تمثيله يجعله أداة ممتازة لشرعنة الفعل السياسي السلطوي والآخر الاحتجاجي على السواء. ومن الطابع الاحتجاجي للخطابات والسلوكيات "الإسلامية"، برزت الحاجة الملحة إلى العودة إلى السياق المجتمعي لإيجاد مداخل جديدة توسع الفهم تجاه الحركات الإسلامية التي اكتشف أنها ليست حركات ماضوية أصولية فقط، بل متفاعلة بامتياز مع تحولات المجتمع بعكس الأحزاب السياسية والحركات القومية والاشتراكية التي تجاوزها التغيير السريع داخل المجتمع.
مداخل مختلفة
تتقدم عادة التفسيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أي محاولة لتحليل موضوعة الإسلام السياسي بحيث تصبح أي محاولة للفهم أسيرة هذه الأطروحات التفسيرية.
لا ينطلق هذا الإشكال في الواقع من فراغ، فالفكر التفسيري الذي هو بالأساس فكر غربي تراكمي هو نتاج عقلانية وضعية. فلأنها عقلانية فهي لا تعترف بمصدر للمعرفة خارج إطار العقل المحض، ولأنها وضعية فهي تبني معقوليتها في الزمن الحاضر ولا تقبل إلا ما يمكن بناؤه على وقائع مادية محسوسة.
هذا النمط من المعقولية هو المسؤول عن ابتداع أو اختراع ثنائية الفكر الديني والفكر العقلاني منذ اوغست كونت ولان الصراع كان أساسا من اجل السياسة فقد وضعت السياسة في مواجهة الدين مثلما وضعت السلطة الدينية في مواجهة السلطة السياسية. ولاحقا أدرجت الحكومة الديمقراطية في مواجهة الحكومة الدينية.
شكل الصراع على السلطة البؤرة المحورية التي أدت إلى نشوء هذه الثنائيات.مشروع الإصلاح البروتستانتي الذي قاده لوثر ضد استبداد الكنيسة الكاثوليكية بالسلطة السياسية والدينية مجتمعة، أدى إلى نشوء الكنيسة الانجليكانية، أكثر فروع المسيحية حرية وفردا نية، بفضله امتزجت الحرية الدينية بالحرية الفردية وأصبح الدين الشخصي رمز الاستقلالية المؤسسية عن صكوك الغفران التي كانت تمنح للمذنبين في الدنيا قبل الآخرة في مقابل الذهب. لاحقا ظهر المشروع البرجوازي الذي كان يطالب بالمزيد من الحرية الاقتصادية بعد تدفق الذهب الأمريكي من العالم الجديد والذي تحول إلى مطالب باقتسام السلطة والحق في التشريع واكتشف الفكر الغربي أن الحرية الاقتصادية لا يمكن أن تنفصل عن الحرية السياسية: جنين الديمقراطية الغربية في طبعتها الليبرالية.
المشروع الماركسي ضل الأكثر تأثيرا في منظومة الأفكار الغربية حول الدولة والمجتمع، فالطبقات الاجتماعية التي تضررت من الواقع الجديد الذي أفرزته الثورة الصناعية ونمو الرأسمالية المتوحشة، كان عليها أن تتحرك جماعيا في شكل حركات اجتماعية واسعة لتغيير الوضع القائم. شكلت البلوريتاريا احد أهم أشكالها تمظهرا في مطالبها الثورية التي تتوخى هدم أسس الدولة في سبيل الوصول إلى اللادولة حيث الحرية مشاع في كل الميادين. فالواقع الاقتصادي لابد أن يشكل لدى الفئات الاجتماعية وعيا طبقيا بمصالحها يحثها إلى الثورة على أوضاعها في وجه أشكال الاستلاب. دون أن ننسى أن ماركس طبعا هو وريث هيغل ممجد الدولة الوطنية التي بناها بسمارك في بروسيا في القرن السابع عشر لدرجة تحويلها إلى اله جديد.
سيتولى ماكس فيبر الذي يعد وريث ماركس التأسيس لاتجاه المعنى؛ تتحرك الجماعات المختلفة(الأصولية في هذه الحالة) وفق المعنى الذي تسبغه على الواقع (الخطاب الديني في هذه الحالة) والذي يتحول إلى أداة لشرعنه سلوكاتها وخطاباتها؛ تحليل منظومة القيم والاصطلاحات السياسية التي تعتمدها هذه الجماعات بناء على هذه المنظومة، يصبح ضرورة لفهمها. دون أن ننسى أن فيبر من جهة أخرى، هو من أسهم في مد الثقافة البروتستانتية بالدور الريادي في استنبات التقدم الاقتصادي والسياسي.
على صعيد الممارسة..
أدت الضربات الفكرية التي وجهها الفكر الماركسي وكذا الأزمات الاقتصادية والحروب الدولية، إلى منظومة الفكر الليبرالي إلى طرح المسائل الأخلاقية والاجتماعية بإلحاح . وأظهرت الكنيسة التي كانت تبحث لها عن موطئ قدم في المجال السياسي الجديد، تصالحا مع مشروع الدولة الوطنية الذي استقرت أسسه بعد الحرب العالمية الثانية، وقدمت نفسها كضامن للانسجام الاجتماعي والمحافظة الأخلاقية في شكل ما سمي بالديمقراطية المسيحية وأحزابها التي تدرجت بين مساندة القضايا الاجتماعية في الستينيات والسبعينيات وهو ما قربها من اليسار، إلى مساندة اليمين منذ بداية التسعينيات باعتبار أن القضايا الاجتماعية أصبحت ذات طبيعة أخلاقية( تتزعمها قضايا الإجهاض والاستنساخ مثلا). وقد درجت كل الكنائس الكاثوليكية، بعد أن كانت من أكثر مؤيدي الدولة ومؤسساتها الاستبدادية ، على إتباع نفس النهج في دول الأطراف في الثمانينيات، لا سيما ضد ماركوس في الفلبين وفي ما سمي بلاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. في المسالة الاجتماعية ظهرت الأحزاب الاشتراكية التي حملت على عاتقها تمثيل الفئات الدنيا والعاملة التي لم يشملها المشروع الفكري للدولة القومية الجديدة. هذان شكلا الطبعة الاجتماعية من الديمقراطية الغربية الذي ظهر عقب الحرب الكونية الثانية فيما سمي بدولة الرفاهة.
هذه التراكمية في الفكر الغربي هي التي تجعل اليوم المطالبات بالحرية في الدين المستقل عن أي انتماء آو سلطة هرمية أو مؤسسية بدل الحرية من الدين التي ميزت القرنين الثامن والتاسع عشر، والعودة إلى الدين التي طبعت السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، مسالة يمكن فهمها ورصدها؛ سياقات العولمة الفكرية والاتصالية أفرزت أشكالا أكثر تمردا من الحرية من أي وازع يفسر اللجوء إلى ابتداع تدينات جديدة يمكن أن تحمل تفسيرا ما لحالة الصراع على القيم التي تسود تلك المجتمعات.
مناهج ام نماذج..
هل تصلح هذه التفسيرات لتناول قضايا العالم العربي والإسلامي بظواهره المختلفة؟ لابد انه سؤال جوهري وأساسي. لكن طرح السؤال ليس صعبا بقدر الإجابة عليه لتعدد مداخل الإجابة وصعوبة حصرها:
أولا: هل الدين هو دائما المدخل المناسب والوحيد لتفسير ظواهر المجتمع؟ هل يمكن اختصار كل ماسي المجتمعات الإسلامية في صفة الإسلامية المضافة إليها لتمييزها عن باقي المجتمعات؟ في هذه الحالة يبدو هنتجتون الأقدر بامتياز إذ هو أول من لفت انتباهنا إلى أن هناك، إلى جانب المجتمعات الإسلامية، مجتمعات هندوسية وكنفوشية وأمريكية لاتينية بل وحتى أوروبية وأمريكية.
ثانبا:هل يحمل الفكر الإسلامي نفس الدرجة من التراكمية لتقديم تفاسير معينة لمراحل تاريخية محددة قد تساعد فعلا على التقرب من مسالة تطوره من جموده؟ ونقصد بالفكر الإسلامي هنا الانتاجات النظرية التي كان لها فضل في إحداث درجة من التغيير الاجتماعي ؟
ثالثا: إلى أي مدى يشكل الصراع على السلطة في الداخل، كما في تجربة الغرب، ساحة الصراع الحقيقية؟ والى أي مدى ساهم هذا الصراع في إحداث تحولات مجتمعية منفصلة عن التأثير الخارجي وقابلة للملاحظة كتلك التي حدثت في الغرب؟
رابعا: وهو مرتبط بالسابق: هل يمكن بواقعية تحديد من هم أطراف الصراع الحقيقيون والبيئة التي يتحركون فيها؟ وبالتالي إمكان قياس قدراتهم الواقعية والوصول إلى درجة من التنبؤ بمستقبل نتيجته لهذا الطرف آو ذاك؟
خامسا وهو الأهم، ما هي القيم المتصارع عليها والتي يمكن أن يفسر الفشل في الوصول إلى حل اتفاقي حولها، اتجاه الإفراد إلى التعبير الديني والمطالبة بتفعيله كأداة للتغيير الاجتماعي؟ وفي حالة الجواب ، فما هو الحل المثالي الذي يضمن حقوق المتخاصمين ويحول دون تشدد بعضهم واستبداد بعضهم؟
هذا يعني أننا في النهاية، أمام ظاهرة مركبة تمتزج فيها المكونات الثقافية والدولية والسوسيو سياسية، وان أي تغييب لأي مكون سيعد إجحافا في حقها. إدراج المكون الثقافي يجعلها حالة خاصة بالمجتمعات التي تغلب عليها الثقافة الإسلامية دون جعلها حالة شاذة أو مرضية. وهو ما يقود مباشرة إلى المكون الدولي الذي يستحضر انتشار المسلمين في كل أصقاع الأرض، والى التطورات النظرية التي تدعو إلى منح المهاجرين حقوق المواطنة المساوية للسكان الأصليين بما فيها حقوق التنظيم والترشيح والتصويت. وينتهي التحليل الأخير إلى المكون السوسيوسياسي الذي يجعل الحركة الإسلامية نتاجا طبيعيا لإخفاق المكون القومي منفردا في حل المشاكل السياسية والاقتصادية المستعصية.
دراسة الحركات الإسلامية وفق هذه الرؤية المركبة تضع الموضوع ضمن دوائر ثلاثة وتجعلها ظاهرة مركبة بمستويات تحليل متساندة ترفع عنها الصبغة الاختزالية المحدودة وتضعها ضمن نطاق بيئة موضوعية سهلة للرصد والمتابعة، وترفع عنا نحن الباحثين المبتدئين حرج عمى الألوان وان كانت لا نخلو من إمكانية طرحها لنظارات جديدة ملونة ربما، إذا اعتمدنا بديهية موضوعية هي أن لا موضوعية خالصة في العلم.