عمرو خالد.. الطبعة الإسلامية لليبرالية الجديدة!
باحث وصحفي مختص في الظاهرة الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الاهتمام بحركات التدين الجديد لا يتوقف، والدراسات التي تتناول الظواهر الدينية الجديدة لا تنقطع في أنحاء العالم وداخل كل الأديان، فالقرن الحادي والعشرون سيكون قرن الدين أو لن يكون، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو.
وفي إطار هذا الاهتمام كانت الدورية الفرنسية "السياسة الأفريقية" قد أصدرت عددا خاصا (العدد 87) بعنوان "موضوعات الرب" لبحث التغيرات الجديدة على مستوى العلاقة بين اليومي، أو المعيش، والمقدس في قارة أفريقيا السمراء.
"السياسة الأفريقية" واحدة من أهم الدوريات المتخصصة في الشئون الأفريقية، وتصدر عن مركز الأبحاث السياسية والقانونية في القارة الأفريقية بجامعة السوربون، ويرأس تحريرها "ريشار بانيا" و"رولان مارشال". وهي تعكس الاهتمام الفرنسي الكبير بالقارة السمراء التي شهدت منذ نهاية الثمانينيات نوعا من العودة للدين على كل المستويات، وهو ما يحاول الملف رصد أشكاله المختلفة.
الملف يضم دراسات ومقاربات مختلفة حول الدين والحياة في أفريقيا؛ فيقدم الباحث "هيرفيه ميبو" مقاربة لدور الدين في الانتخابات الكينية التي أسفرت عن وصول المعارضة للحكم لأول مرة منذ استقلال البلاد، ويكتب "أندريه ماري" عن سياسة المتنبئين الرعاة في كوت ديفوار التي تمثل اللقاء بين التقليدي -وهم أولئك المتنبئون الرعويون- والحداثي وهو شكل الحكم في البلد الأفريقي الذي كان مثلا للاستقرار ثم تحول إلى منطقة اضطرابات عنيفة.
وفي الملف أيضا موضوع عن النمو الديني وطابع الحكم، يناقش أبعاد العلاقة ما بين التقليدي القبلي والسياسي الحداثي في بوركينا فاسو للباحث "بيير جوزيف لورين"، كما يكتب "جوزيف توندا" عن اقتصاديات المعجزات الدينية في أفريقيا الوسطى.
الإسلام كظاهرة اجتماعية
أما أهم دراسات الملف فكانت عن الشيوخ الجدد وظاهرة عمرو خالد، وأهميتها ليست فقط في كونها الوحيدة في الملف التي تتعرض للإسلام في أفريقيا قارة الإسلام؛ بل لأنها ربما كانت الأولى والأهم عن ظاهرة جديدة على الحقل الديني الإسلامي.
الدراسة أعدها "باتريك هاني" وهو باحث اجتماع سويسري يعيش في مصر وهو مختص في الظاهرة الإسلامية، وحصل على الدكتوراة من معهد الدراسات السياسية في باريس عن الحركة الإسلامية في منطقة إمبابة "إحدى الضواحي الشعبية في مدينة القاهرة"، ونالت جائزة أحسن رسالة دكتوراة باللغة الفرنسية عن العالم الإسلامي لعام 2001، ودراسة باتريك عن "الإسلام كظاهرة اجتماعية: الشيوخ الجدد- نموذج عمرو خالد" تقوم بالأساس على رفض التفسير العلماني الشائع في مصر لظاهرة عمرو خالد والذي ينظر إلى الظاهرة باعتبارها وجها من وجوه انتشار الأصولية الإسلامية وتغلغلها في كافة شرائح المجتمع المصري على اختلافها، وتتعامل معها على أنها الطبعة الأرستقراطية لخطاب الإسلام السياسي صاحب الصوت الأعلى في مصر طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
كما تختلف الدراسة في منطلقاتها أيضا مع التفسير الذي يُرجع انتشار ظاهرة عمرو خالد إلى أزمة الطبقة الوسطى، حيث يرى باتريك أن كلا التفسيرين ينكر حاجة المجتمع بما فيها الشريحة العليا وأبناء الطبقة الأرستقراطية للتدين، كما أنهما يتأثران إلى حد بعيد بالمعركة السياسية التي تخوضها تيارات علمانية ضد انتشار الظاهرة الإسلامية.
أخلاقيون خارج السياسة
ظاهرة عمرو خالد في رأي باتريك مختلفة تماما عن تيار الإسلام السياسي ممثلا في الجماعات والتنظيمات الإسلامية التي جسدت ظهور وانتشار الظاهرة الإسلامية في العقود الماضية. وأهم نقاط الاختلاف التي ترصدها الدراسة كانت الابتعاد عن السياسة والتزام خطاب أخلاقي يختلف مع خطاب هذه الجماعات والتنظيمات السياسية. فعمرو خالد في رأي باتريك وقف على بوابة الإسلام السياسي، ولم يدخلها، وهو أخلاقي بحت حتى إذا تحدث في السياسة، ويضرب مثالا بمحاضرة لعمرو عن فلسطين يرى فيها أن المسلمين خسروا القدس بسبب ضعف الإيمان وهي لن تعود إليهم إلا إذا قوي إيمانهم مرة أخرى والتزموا بالأخلاق الإسلامية!
وتنظر الدراسة إلى ظاهرة عمرو خالد باعتبارها تعكس التوظيف الاجتماعي للإسلام بما يبتعد بها تماما عن حركات وتنظيمات الإسلام السياسي فترى أن نموذج عمرو خالد يمثل تلبية للاحتياجات الدينية للنخب والطبقات العليا في مصر ومحاولة لتقديم إسلام بمواصفات خاصة لأبناء هذه الشرائح التي تستقر بأعلى الهرم الاجتماعي في مصر بما يلبي رغبتها الحقيقية في التدين وفي ألا تحمل شعورا بالذنب أو إحساسا بالتقصير يدفعها إلى إعادة النظر في وضعها الاجتماعي وما يكفله لها من امتيازات لا تتاح للطبقات الأقل، وهو تدين ذو مواصفات خاصة لن تجده هذه الشرائح في خطاب الشيوخ التقليديين المحسوبين على تيار الإسلام السياسي من أمثال الشيوخ: وجدي غنيم، ومحمد حسان، ومحمد حسين يعقوب...
تدين النخب الأرستقراطية
وفي ضوء ذلك تتعامل الدراسة مع عمرو خالد باعتباره تجسيدا لخطاب إسلامي جديد لا ينفصل عن الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها ويعبر عن تطلعاتها، فعمرو لا ينفصل عن طبقته الأرستقراطية في خطابه الإسلامي في حكم كون أبيه طبيبا كبيرا في رئاسة الجمهورية وأمه حفيدة إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس وزراء مصر الأسبق (قبيل الثورة المصرية 1952)، وخطابه بالأساس رافض لانحلال الطبقة البرجوازية التي ينحدر منها، ولكنه أيضا متصالح مع هذه الطبقة، ويستجيب لرغباتها في تدين بمواصفات خاصة بها وبالشباب منها بصفة خاصة باعتباره الحلقة الأضعف من هذه الطبقة وهو تدين جديد؛ الدنيا حاضرة فيه بقوة وليست على صِدام مع الدين، كما لا يتعرض فيه البناء الاجتماعي للطبقة والعلاقات الأسرية إلى خلخلة أو تفسخ أو صدام بين أطرافه كما يحدث في التدين السلفي الذي تقدمه جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي.
ففي ظاهرة عمرو خالد يمكن للشاب البرجوازي أن يلتزم دينيا دون أن يعيد النظر في وضعه الاجتماعي أو في علاقاته الاجتماعية، ودون أن تضطرب أوضاعه الأسرية.
لقاء الليبرالية بالإسلام
وتنظر الدراسة إلى عمرو خالد ونظرائه ممن أطلق عليهم الشيوخ الجدد أمثال الحبيب الجفري وخالد الجندي.. إلخ باعتبارهم ظاهرة إسلامية جديدة هي نتاج لتفاعلات بين الخطاب الإسلامي والخطاب الليبرالي الجديد، وتقارن بين خطاب عمرو خالد من خلال تحليل مضمون درسه (الشباب والصيف) وبين خطاب الإصلاح البروتستانتي في أوائل القرن التاسع عشر لتتحدث عن أوجه تشابه كبيرة بينهما خاصة فيما يتعلق بالنظرة إلى الثروة الاقتصادية، فخطاب عمرو خالد يتحدث عنها باعتبارها ليست عيبا أو ذنبا بل هي نعمة من الله، ويؤكد على ذلك في كل دروسه مبررا التراكم الاقتصادي الذي حققته الطبقة البرجوازية في السنوات الأخيرة ويعطيه الشرعية الدينية مشروطة بأداء حقه وهو خطاب موجه بالأساس إلى الطبقة المهيمنة أو الصاعدة اقتصاديا حتى في رؤيته للأخلاق والقيم الإسلامية، فالصبر مثلا في خطاب عمرو خالد يختلف عن الصبر في الخطاب الإسلامي التقليدي الذي يأخذ طابعا (قدريا) في حين يعني عند عمرو التواصل والاستمرار في العمل وتنظيم الوقت والمثابرة على النجاح... إلخ.
وتنظر الدراسة بناء على ذلك إلى ظاهرة عمرو خالد والشيوخ الجدد باعتبارها مرتبطة أيضا بمنطق السوق والقطاع الخاص إلى حد كبير، فدروس عمرو وزملائه تتم في نوادي النخبة والفنادق الفخمة وبعضها في مدينة دريم لاند التي تمثل صورة مصغرة لمجتمع النخبة الرأسمالية والتي يستدعي ذكرها اسم (ديزني لاند) أحد أشهر رموز الرأسمالية الغربية.
ومحاضرات عمرو وزملائه ودروسهم الدينية بضاعة تلفزيونية رائجة للقنوات الاستثمارية الخاصة مثل (دريم) و(إل بي سي)، وصار هناك سوق اقتصادية كاملة وضخمة أنشئت وارتبطت بهذه الظاهرة الجديدة المستوعبة كاملا داخل العولمة على ما يراه باتريك هاني.
التصالح الديني والطبقي
ما اقترب منه الباحث ولم يقله أن المهم في ظاهرة الشيوخ الجدد هي الحالة التي يصنعونها وليس أشخاصهم ولا مضمون كلامهم. الحالة هنا هي الجو المحيط والوسيط الذي ينتقل عبره الكلام والجمهور الحاضر وهكذا.. فهذه الحالة تؤدي إلى تصالح شعوري بين الواقع المعيش وبين الدين الذي يمثل المرجعية الأساسية للشخص الحاضر المنتمي للبرجوازية الجديدة. ويصير السلوك الشخصي المعيش حياتيا المرفوض دينيا (مثل الاختلاط مع الفتيات غير المحجبات أو المحجبات والتعرف عليهن) سلوكا دينيا مطلوبا (فالشاب صار يدعو الفتاة للدين).
وفي نفس الآن فإن الحالة التي يقدمها الشيخ المحاضر تجذب أيضا الشباب من الطبقات الفقيرة؛ لأنها تمثل لهم فرصة الانتماء للطبقات الصاعدة والغنية، أي فرصة للحراك الاجتماعي على المستوى التخيلي على الأقل. فمجرد الجلوس مع أفراد الشباب من الطبقات الغنية والاستماع للشيخ يعني الانتماء لنفس الجماعة؛ ومن ثم يخلق أيضا حالة التصالح الشعوري لديهم على المستوى الطبقي.
في موجة الإيمان الجديدة
وتضع الدراسة ظاهرة عمرو خالد في سياق عالمي تأثر بهيمنة خطاب الليبرالية الجديدة عالميا وعلى كافة الأديان، فيرى أنها تقترب كثيرا من جماعات الإيمان الجديدة المسيحية التي انتشرت مؤخرا في الغرب في رفضها للمؤسسات الدينية التقليدية واستقلالها عنها، وفي طابعها الفردي المستقل البعيد عن الجماعية، وفي تركيزها أيضا على المشاعر والعواطف، فظاهرة عمرو خالد نشأت واستمرت بعيدا عن المؤسسات الدينية التقليدية، سواء أكانت رسمية (كالأزهر والأوقاف) أو غير رسمية كالمؤسسات الأهلية والتنظيمات الإسلامية الرئيسية (كالجمعية الشرعية، وأنصار السنة، والإخوان المسلمين...) فقد بدأ عمرو دروسه في أندية النخبة، ثم انتقل إلى بيوت الأغنياء ثم مساجدهم حتى تلقفته القنوات الفضائية الخاصة دون أن يرتبط بالمؤسسات أو التنظيمات السائدة والتقليدية، وكان في معظم الأحيان يعمل مستقلا أو بمساندة تيار التوبة الذي يمثله الفنانات المعتزلات وهو تيار منفصل أيضا عن التنظيمات والمؤسسات الدينية.
وجمهور عمرو خالد كان في مجمله من غير المؤطرين تنظيميا أو سياسيا، ويتشكل من مجموعات صغيرة أقرب إلى مفهوم الشلة (الذي تنتظم وفقه العلاقات بين أبناء النخبة) منه إلى مفهوم الجماعة والتنظيم؛ فحضور دروس عمرو كان دائما ما يتم عن طريق مجموعة الأصدقاء أو (الشلة) وهو جزء من تفاعلات العلاقة بين أعضاء هذه المجموعة التي مثلما تذهب لحضور دروس عمرو تذهب أيضا إلى المصيف والنادي والسينما وأداء العمرة في الأراضي المقدسة، وهذه الصيغة في العلاقة تعكس حاجة أبناء هذه المجموعات الصغيرة إلى التفاعل خارج مفهوم الجماعة بصورتها التي كانت تطرحها الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسيسة والتي قد تصل أحيانا إلى إلغاء الفرد ضمن صيغ جماعية أكثر تجريدا مثل (الأمة) وهو ما يظهر بوضوح في خطاب أسامة بن لادن وتنظيمه القاعدة.
أما الملمح الثالث للتشابه بين ظاهرة عمرو خالد وجماعات الإيمان الجديدة فهو التركيز على المشاعر والعواطف. فليس المهم عند عمرو تنفيذ وأداء الواجب الديني بل الأهم منه الإحساس به وهو ما يخالف الخطاب السلفي التقليدي الذي يركز على الشكل أولا، فعمرو خالد يركز على العواطف والأحاسيس ويقيم علاقة متداخلة بينه وبين جمهوره بحيث لا تسير الدروس في اتجاه واحد بل على أساس تفاعل وتبادل وتداخل فيأخذ رأيهم ويستبين مشاعرهم وأحاسيسهم، ويتجنب دائما إصدار أي حكم مباشر على أفراد جمهوره الذين كثيرا ما يخالفون المبادئ الإسلامية (مثل حضور الفتيات للصلاة والدرس بملابس غير ساترة وبدون حجاب)، ويتعامل بإحساس الأخ الأكبر الذي يغلب روح الحب، ويرفض سياسة التخويف التي لا تتلاءم بدورها مع النفسية البرجوازية، وربما مع نفسية العصر أيضا.
وترصد الدراسة أن عمرو خالد يختلف مع كل ما هو تقليدي من الظاهرة الإسلامية، وأنه يجسد بشكله وهيئته وعمره وتعليمه وطبقته الاجتماعية خروجا على الصورة المستقرة للداعية الإسلامي، غير أن أهم ما اختلف به هو أسلوبه وطريقته التي تشبه -بحسب الدراسة- طريقة الاعتراف حيث يعطي لجمهوره الفرصة لإخراج داخلياته والتعبير عن خصوصياته بما فيها من أشياء لم يكن يسمح المجتمع التقليدي بالبوح بها، إلا أن هذا الاعتراف ليس في الصورة الكنسية المعروفة في الفكر المسيحي إذ إنه لا يصدر أحكاما غير المعترف.
وتؤكد الدراسة أن ظاهرة عمرو خالد والشيوخ الجدد مرشحة للتكرار ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي والإسلامي بفعل التفاعلات المستمرة والمكثفة بين الخطاب الإسلامي وبين قيم وأفكار وتوجهات الليبرالية الجديدة.