الشهادة والشهيد دراسة مقارنة في الانثروبولوجيا الدينية
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يمكن اعتبار هذا الكتاب دراسة في الأنثربولوجيا الدينية لفكرة ومفهوم الشهيد والشهادة في الفكر والتاريخ الإسلامي، تتجاوز مجرد الرصد التاريخي أو التأصيل الشرعي الذي غلب على معظم الأدبيات التي عالجت هذه الفكرة في التاريخ الإسلامي دون أن تقفز عليها أو تتجاهلها، حيث تقدم الباحثة "سلوى العمد" مقاربة بين التاريخ والأيديولوجيا في دراسة فكرة ومفهوم الشهيد عند أهل السنة والشيعة، باعتبارهما يمثلان القطاعين الأكبر في الأمة الإسلامية.
والكتاب في الأصل أطروحة جامعية للمؤلفة نالت بها درجة الماجستير من قسم الدراسات العربية ودراسات الشرق الأدنى بالجامعة اللبنانية التي تعمل بها في تخصص الأنثروبولوجيا الدينية، وقد أدخلت عليها بعض التعديلات والاختصارات التي يتطلبها النشر.
ويعد الكتاب محاولة لدراسة مفهوم فكرة الشهيد عند أهل السنة والجماعة، والشيعة باعتبارها قضية محورية في بناء وتشكيل العقل والوجدان الإسلامي على مرّ تاريخه، وذلك من خلال دراسة صورة رمز واحد هو الحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في واقعة استشهاده بكربلاء في (عاشوراء، العاشر من المحرم سنة 61هـ) باعتباره الرمز الأشهر والأكثر تجسيدًا للتمايز والاختلاف الحادث بين السنة والشيعة فيما يتعلق بتصور كل منهم لصورة ومفهوم الشهيد.
الشهيد البطل. . والشهيد المظلوم
لعل ما جذب المؤلفة لموضوع الكتاب - كما تروي - هو محورية فكر الشهيد والشهادة في الفكر والتاريخ الإسلامي، حيث لاحظت في فترة مبكرة من حياتها في بيروت أن كل التنظيمات المسلحة من مختلف الخلفيات السياسية والأيديولوجية كانت تركز في خطابها السياسي وعملياتها العسكرية على الشهادة. حتى الأحزاب العلمانية منها - بما فيها الحزب الشيوعي اللبناني والقومي السوري - والتي كانت شعاراتها عادة ما تترنم برموز دينية على رأسها الشهادة، كما لاحظت أن ثمّة تمايز بين الطوائف المختلفة في وصفها للشهيد بصرف النظر عن الإجماع على مكانته، حيث كان من اللافت أن كل ملصقات ضحايا الحرب في لبنان الذين امتلأت بصورهم الشوارع كانت تسبق بلقب (الشهيد المظلوم) إذا كان منتميًا للتنظيمات الشيعية، و(الشهيد البطل) عند التنظيمات السنية.
إطلالة على الكتاب
وقد قسَّمت المؤلفة كتابها إلى خمسة فصول سبقتها باستهلال عرضت فيه لأسباب اختيار موضوع الكتاب، ومقدمة تحدثت فيها عن المقولة الأساسية التي يقوم عليها البحث، ثم ختمتها بخاتمة تلخّص ما انتهت إليه من نتائج.
فيعد الفصل الأول وهو بعنوان (في الأيدلوجيا والمقاربة الأيدلوجية للتاريخ)، تأسيسا للموضوع، يمهِّد للتعرف على تصور كل من الشيعة والسنة للتاريخ وللذات الجماعية، حيث يمثل السُّنَّة الوسط المركزي الذي تظهر إزاءه هوية سياسية ذات جوهر معارض هي الشيعة.
وفي الفصل الثاني (البطل والشهيد في الإسلام) تقدم الكاتبة عرضًا وتحليلاً لصورتي البطل، والشهيد في التراث الإسلامي عامة، وتميز بين نظرة كل من السنة والشيعة للشهيد.
و يستعرض الفصل الثالث (ظهور المعارضة في الإسلام)، الكيفية التي نشأت بها المعارضة في الإسلام (التي غالبًا ما كانت شيعية)، إلى أن استقرت كظاهرة طائفية عبر مجمل التاريخ العربي الإسلامي، مع التركيز على طائفة الشيعة الإمامية باعتبارها الأكثر تمثيلاً من حيث الانتشار والاستمرارية والأيدلوجيا المعارضة، مع التعرض تفصيليًّا " لمقولة الإمام " كركيزة أساسية في عقائدهم والتمييز بينها وبين الخليفة عند أهل السنة.
الفصل الرابع (شهيد كربلاء في التاريخ والأسطورة) يتعرض لقصة الحسين (رضي الله عنه) في بُعْديها التاريخي (عند السنة)، والأسطوري (عند الشيعة)؛ للتعرف على حيثيات الجذر التاريخي لأسطورة الإمام الشهيد، من أجل التعرف على سرِّ الحيوية والتجدد فيها عند الطائفة الإمامية، وتسلط الضوء على الوظيفة التضامنية التي تؤديها إمامة الشهيد في أوساط المشايعين.
أما الفصل الخامس والأخير (شهيد الشيعة في مقابل بطل السنة) فيتضمن مقارنة بين تصوري السنة والشيعة لشخص الإمام الحسين بن علي (رضي الله عنه) كنموذج للدراسة، وسنجد أنفسنا فيها بإزاء نموذجَين عقائديَّين في إطار التراث الديني والواحد.
شهيد السنة
ينطلق الكتاب من فرضية أن أهل السنة الذين يشكلون الغالبية العظمى أو الوسط المركزي للمجتمع العربي الإسلامي يرون في كل رمز إسلامي شخصية تاريخية بالكامل؛ لذا فغالبًا ما يكون رمز السنة هو رجل الدولة القدير وبطل الفتوحات، أي هو صانع الانتصارات للدولة الإسلامية، وينسحب ذلك على مفهومهم للشهيد باعتباره بطلاً سقط في الطريق نحو الهدف المرجو من فعل البطولة؛ لذلك فالحسين (رضي الله عنه) عندهم شخصية تاريخية نالت الشهادة في إطار ظرف تاريخي خاص؛ ومن ثَم فهم في معالجتهم لكربلاء يسعون لقراءة الحيثيات التاريخية التي أدَّت ملابساتها إلى وقوع هذه المأساة واستشهاد الحسين (رضي الله عنه) وصحبه، وقد يختلفون في تقدير الدوافع والنتائج والصواب والخطأ فيها دون أن يلغي ذلك المكانة الدينية للحسين (رضي الله عنه) والمنصوص عليها بنصوص دينية، إضافة إلى كونه حفيد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
شهيد الشيعة
في المقابل نجد أن تصور الشيعة الإمامية الإثنا عشرية للشهيد تنطوي على موقف أيدلوجي بحت؛ إذ يتم التعامل مع الحسين واستشهاده في كربلاء لا كشخصية أو حدث تاريخي، وإنما كرمز وقضية لها دلالتها ومعناها الذي يغلب على أي معنى آخر في التاريخ؛ إذ يلغي العنصر التاريخي في الشخصية والحدث، ويضفي عليها طابعًا أسطوريًّا وهالة قدسية تقترب بالحسين من مصاف الأنبياء أو تزيد عليه أحيانًا، وتعطي لعاشوراء درجة قصوى من القداسة، وهو ما يظهر في المؤلفات الشيعية المتعلقة بشخص الحسين (رضي الله عنه) وذكرى استشهاده في كربلاء، فالحسين (رضي الله عنه) يظهر فيها كأصل للنبوة وليس سليلاً لها، وهو أزلي الحضور تنسب إليه معجزات قبل مولده وبعده. كما أن مقتله في كربلاء قديم قدم الدنيا وليس حادثًا، وبركة عاشوراء ومشهد كربلاء قديم وأزلي بسبب مقتل الحسين بها، كما أن شهادة الحسين نفسها تجسيد لإرادة إلهية أزلية. وكثيرًا ما تربط هذه المؤلفات تاريخ الحسين الحي بأفكار شغلت الإنسان منذ بدء الخليقة بها رمز للوجود الأزلي للحسين في الدنيا، بل وكثيرًا ما تحدد موقف الناس من الحسين وآل البيت وما ألمَّ بهم من مصائب كمقياس للثواب والعقاب في الآخرة.
وتؤكد الباحثة أن نقل الشيعة للحسين وكربلاء من وقائع التاريخ إلى حيّز الأيدلوجيا والأسطورة التي تحمل طابع الديمومة المتجاوزة للزمان والمكان مرتبط بشكل وثيق بموقعهم في المجتمع العربي الإسلامي الذي يمثلون فيه الهامش المعارض، حيث تساعدهم هذه الأيدلوجية في إبقاء روح الجماعة لديهم، وتعززها في مواجهة المجموع السني، حيث تبقى فيها روحها المعارضة التي يُؤججها شعار ديمومة الثورة وإمامة الشهيد في كل زمان ومكان.
لكل عصر حسينه ويزيده
ومن أفضل ما قدمته الباحثة للتدليل على الفرضية التي يسعى الكتاب لإثباتها هو دراستها للمشاهد الحسينية في احتفالات عاشوراء، حيث تحل عناصر الأسطورة (بما تحمله من تكثيف وترميز لواقعة كربلاء) محل الوقائع التاريخية لها، فشعائر الذكرى تركِّز على دلالة الحدث ومعناه أكثر من الوقائع الحقيقية؛ لذلك فهي توظف تعبويًّا؛ لأنها تشحن مشاعر الحاضرين باستحضار مظلمة تاريخية، وهو ما يوظف ضد سلطة الحاضر، خاصة في أوقات الاضطراب السياسي والاجتماعي، حيث تصبح هذه الذكرى إطارًا لصياغة المعارضة الضمنية أو الاحتجاج الصريح حسب ما تمليه الظروف السائدة وقت حلول الذكرى، وهو ما حدث أثناء الثورة الإسلامية في إيران، وفي الحرب اللبنانية الأهلية، وفي المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث وُظِّفت الذكرى لمصلحة هذه الأحداث، بل وأحيانًا ما تم الربط في احتفالات عاشوراء بين ذكرى استشهاد الحسين والأوضاع التي تعيشها بلدان العالم الثالث الأخرى إذا ما تشابهت مع البلاد الإسلامية، حيث كثيرًا ما جرى الربط بين مضمون ما يجري فيها بالمعاني التي حملتها كربلاء الحسين بدعوى أن (لكل عصر ولكل بلد حسينه ويزيده)، حتى أنه في عام 1968م الذي اغتيل فيه أرنستو شي جيفارا في قراءات السير الحسينية في كربلاء هو صنو الإمام الشهيد الحسين، ورمزًا من رموز التضحية والفداء للإنسانية جمعاء، في حين ماثلت المخابرات الأمريكية CIA (التي ذكرناها والتي دبَّرت حادث الاغتيال) في القراءات الحسينية جند يزيد بن معاوية!.
ويكشف ذلك عما صارت تتمتع به أسطورة الإمام الشهيد عند الشيعة من طاقة وحيوية دائمتين تعكسهما بوضوح شعائر الذكرى، حيث تغذي رواية السيرة الحسينية وتمنحها معنى يتجاوز الزمان والمكان، فلا تصبح كربلاء حدثًا تاريخيًّا وقع مرة وإلى الآن؛ بل يظل مفتوحًا على مستوى الدلالة ليشمل الصراع بين قوى الخير والشر في كل زمان ومكان.. وهو ما يعكسه الشعار الشيعي (كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء).