هل يفيد مجلس تمثيل المسلمين في اندماجهم كمواطنين في المجتمع الفرنسي : حوار مع " آلان روسيون"
صحفي وباحث مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
"آلان روسيون" هو الضلع الرابع لمدرسة الاستشراق الفرنسية الكبرى، تضم معه "أوليفييه روا" و"فرانسوا بورجا" و"جيل كيبيل"، والتي قدمت أهم المقاربات الغربية للظاهرة الإسلامية الحديثة، وروسيون عالم اجتماع ومؤرخ ومستشرق رغم أنه كثيرا النقد للاستشراق بالمفهوم السائد،..وروسيون الذي يعمل مديرا للبحوث بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس ، سبق وعمل مديرا لمركز جاك بيرك للدراسات والعلوم الإنسانية في باريس وسكرتيرا للطبعة الفرنسية من مجلة مغرب مشرق الباريسية، وهو قريب الصلة طوال حياته العلمية بالعالم الإسلامي قضاياه؛ إذ عمل من قبل باحثا بمركز دراسات الشرق الأوسط المعاصرة ببيروت، ومديرا بمركز الدراسات والوثائق الاجتماعية والاقتصادية والقانونية بالقاهرة، عاش وتنقل ودرس ودرَس فترة طويلة في المنطقة العربية واقترب كثيرا من قضايا ومشكلات الإصلاح والبناء الاجتماعي والاقتصاد الإسلامي والحركات الإسلامية والمرأة....وأدب الرحالة ! ولكنه ظل دائما مسكونا في كل أعماله بالبحث في سؤال الهوية، وشغله علي قضية الهوية هو أبرز أعماله ومن أهم ما كتب عنها عموما، منذ أطروحته للدكتوراه التي أشرف عليها محمد أركون ( الإصلاح الاجتماعي والهوية: الفكر والأيدولوجيا والمجتمع في مصر) مرورا بأعماله: ( الهجرة والوحدة العربية)، والجماعات الإسلامية والتغيرات الاجتماعية والانفتاح الاقتصادي) و( الصوت الإسلامي والليبرالية الجديدة في مصر) و( مصر والجزائر تحت نير الليبرالية) و( الإصلاح الاجتماعي والهوية: دراسة حول ظهور المثقفين والمجال السياسي الحديث في مصر) و( ما بين الإصلاح الاجتماعي والحركة القومية: الهوة والتحديث في مصر)..وغيرها من الدراسات والأبحاث كانت أطروحته الأساسية تقول أن كل المشروعات الإصلاحية في المنطقة ارتبطت دائما بإحياء الهوية.
قضية لهوية كانت محور حديثنا الذي دار بالقاهرة ولكن عن الشأن الإسلامي في فرنسا الذي كا علي قائمة قضاياه تأسيس أول كيات لتمثيل المسلمين سياسيا بدعم وتوجيه من وزارة الداخلية الفرنسية. الحوار دار بالعربية التي يجيدها كأهلها آلان روسيون الذي عمل بتدريس العربية وحصل علي الدكتوراة فيها قبل أن يحصل عليها في العلوم الاجتماعية. وهذا نصه:
* أنت مشغول بدراسة ومحاولة الإجابة على سؤال الهوية، فكيف ترى عملية تأسيس كيان لتمثيل المسلمين سياسيا فى فرنسا التى أشرفت عليها الحكومة الفرنسية؟ وكيف تثمنها من زاوية التأثير علي الهوية خاصة وأن هناك من يري أن هذا الكيان سيؤثر سلبا في مسألة صراع الهويات وسيعزز خطر استفزاز الهوية المسلمة؟
** أوافق على هذا الرأي جملة وتفصيلا، وأري أن هذا الكيان يحمل من التأثيرات السلبية بأكثر مما ينتظر منه من إيجابيات والسبب في رأيي هو خطأ وخطر التمثيل على أساس ديني في اندماج المواطن الفرنسي المسلم كاملا ومن ثم حصوله على كافة حقوق المواطنة، ومن دون حساسيات تجاه أي دين أتصور أن أفضل نموذج لتنظيم وجود طائفة دينية هو ما حدث مع اليهود حيث اعتمد هذا التنظيم على عدم وجود كنيسة؛ فحيثما توجد كنيسة تبدأ المشكلة فالكنيسة الكاثوليكية مثلا في فرنسا منفصلة عن الدولة والحكومة ولها موارد وهيئاتها وتنظيماتها وكيان مستقل عن الدولة يفرض نفسه فى التعامل معه وله علاقاته المتبادلة مع الدولة، وهو يدير شئون المسيحيين الكاثوليك ولكن فيما يخص دينهم فقط، أما البروتستانت فأصعب من الكاثوليك لأن كنائسهم منظمة على أساس استقلال كل كنيسة وليست موحدة بالضرورة حتي علي مستوى الدولة الواحدة .
اليهود لهم تنظيم يمثل جميع الجمعيات الموجودة في فرنسا لهم من سائر التيارات الفكرية والسياسية ودون أخذ في الاعتبار إلى أي تقسيم عنصري أو قومي لليهود (يهود شمال أفريقيا أو شرق أوربا ...الخ)، وهذه مشكلة موجودة عند النظر إلى وضع المسلمين فى فرنسا، والمسلمون أنفسهم دخلوا فى هذا الفخ (فخ التقسيم على أساس قومي أو مناطقي أو عنصري) والتاريخ لعب دورا كبيرا فى ذلك مثلما حدث فى هجرة ما بعد الاستعمار ... فوجود بعض المسلمين فى فرنسا كان لأسباب تتعلق بالاستعمار الفرنسي لشمال أفريقيا مثلا وهو ما أورث تقاليدا راسخة جعلت لبعض البلاد كالجزائر مثلا ، دورا مركزيا فى إدارة شئون المسلمين الفرنسيين (سيطرتها على إدارة المسجد الكبير فى باريس مثلا) لذلك لم يكن فى مصلحة الجزائريين مثلا أن يستقل مسلمو فرنسا بتمثيل خاص بهم بعيدا عن السيطرة والدور والمصالح الجزائرية، وكذلك الأتراك والمغاربة ...الخ. لذلك فإن فكرة ضرورة أن يمثل كل هذه المصالح تنظيم سياسي موحد للمسلمين تبدو شبه مستحيلة، وزير الداخلية نيكولاي سركوزى فرض فرضا إنشاء هذا التنظيم، وقد ظهر بوضوح أنه لن يمثل سوى المصالح المركبة للجهات السياسية والمهنية فى الساحة مثل الجزائر (مسجد باريس) والمغرب( الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا) والإخوان المسلمون (اتحاد المنظمات الإسلامية)، أما الفاعليات الأخرى الشبابية والاجتماعية غير المسيَسة فليس لها أي تمثيل.
* اعتراضك ينصب علي مبدأ التمثيل نفسه القائم علي أساس ديني أم علي مجرد تفصيلاته وإجراءات فحسب؟
** بالأساس أنا أرفض فكرة التمثيل نفسها؛ تمثيل أى طائفة أو ملة دينية سياسيا، وأي بناء لكيان ديني خارج إطار المواطنة ، ثم أنني أري أن هناك تناقضا أساسيا يتمثل فى توحيد المسلمين ثم إعادة تقسيمهم فى نفس الصيرورة، فالعملية تهدف لتوحيد صفوف المسلمين عبر كيان سياسي موحد فهل الدين الإسلامي موحد وموجود بنفس هذا المعنى؟! هناك أشكال متنوعة إلى حد كبير يمكن أن يكون عليها المسلم وليس شكلا نمطيا واحدا كذلك هناك قراءات مختلفة للإسلام تجعلنا بإزاء إسلامات متعددة وليس إسلاما واحدا، كما أن الانقسامات حتى على أرضية المصالح ستكون أكبر بكثير مما يبدو وحدة للمسلمين .
*حتى نكون أكثر تنظيما فى تصور وعرض القضية هل يمكن أن تعطينا رؤية حول هذا المشروع (تمثيل المسلمين سياسيا في فرنسا) كيف تراه ؟ وما الأخطاء التي تأخذها عليه تحديدا ؟
** أنا كتبت تقديما لملف مجلة فرنسية كان بعنوان (مسلمي أوربا : كيف تكون مسلما في بلد أوربي) وفيه رفضت تماما تعبير (المسلمين في أوربا) أو (الإسلام الأوربي)، فأنا قد أفهم وأتقبل الحديث والعمل في ملف عن تنظيم وجود المسلمين الأوربيين باعتبار أن المسلمين متنوعون جدا حسب الأصول والممارسة الإسلامية الخاصة بهم واحتياجاتهم الاجتماعية، مثلا مشاكل الأتراك تختلف عن المغاربة لأسباب طبقية واجتماعية بحتة، وهى مثل مشاكل المجتمع الأوربي نفسه، ربما أنا ليس لدى تصور مسبق عن كيفية إدارة هذا التنظيم ولكن أقبل التفاعل معه والنقاش حوله، ولكن مسألة وجود الإسلام أو المسلمين في أوربا أنا ابتعد عنها تماما وأشعر بعدم الرضا أو الثقة فى النتائج.
هناك خلفية ذهنية تقول أن الإسلام حظ أوربا العظيم وأخرى أن تقول أن أوربا حظ الإسلام الكبير، فهناك من يري أن الإسلام سوف يتجدد من أوربا وعكسهم يقولون أن أوربا ستتجدد بالإسلام بعد أن كادت روحها تضيع وتسيطر عليها المادية.. أتصور أن كل هذه الآراء فلسفة لا صلة لى بها وليس عندى موقف من أى الأطروحتين، ولكن اعتقد أن دراسة علاقة الإسلام فى أوربا يجب أن تأخذ منحى واقعيا بعيدا عن الفلسفة، وأعتقد أن الفصل بين السياسة والدين مهم جدا فى نظرى؛ ليس كرهانات سياسية فى الدين أو رهانات دينية فى السياسة، ولكن اقترح الفصل والالتزام بهذا الفصل بسبب الخوف من مسألة (الهوية)وهى ليست مسألة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ولكنها مسألة فلسفية فحين تدار المسائل السياسية على أساس الهوية فلابد أن يخرج ناس عنها ويبدأ التمييز، فإذا قلنا مثلا أن مصر إسلامية استبعدنا- تلقائيا- الأقباط من المسألة وكذلك إذا قلنا أوربا مسيحية فأين سنذهب بالمسلمين الأوربيين فيها، لذا أنا أدعو دائما إلى الابتعاد عن هذا النوع من المشاكل وضرورة النظر إلى مشاكل المسلمين في فرنسا كمشاكل بقية المواطنين الفرنسيين.
في زمن الخمسينات كنا نطلق علي المسلمين مهاجري شمال أفريقيا، ثم بدأنا بعدها نتحدث عن الجزائريين والمغاربة والسنغاليين؛ أي بدأنا ندرك الفروقات داخلهم لأن العلاقات بين هذه المجموعات المهاجرة وبين بلدانها الأصلية كانت قوية، فالحكومة الجزائرية مثلا كانت تدير أجهزة قوية جدا لتأطير الجزائريين فى فرنسا ، وكان هناك فرع جهاز من جبهة التحرير الوطنية مخصص للمهاجرين الجزائريين فى فرنسا، ملك الغرب هو كذلك كان يحاول تنظيم الوجود المغربي أيضا فى فرنسا..وهكذا.
أما الآن فنحن نتحدث عن المسلمين ؟ وأتساءل ما معنى المسلمين ؟ هناك ذوو أصول مسلمة ويعتبرون أنفسهم مسلمين لكنهم لا يمارسون أي طقس ولا ينظمون أي شأن من حياتهم باعتبارهم مسلمين بدرجات مختلفة، وكثير منهم لهم تصور لانتمائه الديني للإسلام يشبه إلى حد كبير التصور المسيحي، مثلي أنا أيضا إذ لا أتخيل أن تتدخل الحكومة الفرنسية لتنظيم حياتي وأعتبر هذا التدخل خطأ إلا فى إطار ضيق جدا كالزواج والطلاق والدفن.. .
لذلك فأنا أعتقد أنه ليس حق الإدارة أو الحكومة الفرنسية التدخل فيها هو أبعد من ذلك فالدين فى الأساس علاقة بين الإنسان وربه وجميع المواطنين متساوون فى حقوق المواطن وواجباتها.
* لكن أليس من حق المسلمين أن يكون لهم جهة ممثلة لهم فيما يخص بعض الممارسات والحقوق المتعلقة بهم كمسلمين ؟
** طبيعي، لكن فيما يخص الأشياء التعبدية كمواقيت الصلاة والصيام والذبح والزواج ..والخ، هذا شئ ضروري لأنه خاص بالمواطن الفرنسي المسلم من حيث صفته كمسلم ولابد منها لاستكماله القيام بتعاليم دينه، كما أننا إذا تركنا هذه الجوانب فقد تسيطر عليها جماعات معينة، أما الذي أرفضه فهو طرح المسألة السياسية على أساس الهوية الدينية لأنها تفرق بين المواطنين الفرنسيين على أسس دينية فأنا أرى الفرنسي المسلم مواطن مثلي تماما كمسيحي فى المسألة السياسية وكذلك الفرنسي اليهودي .
المشكلة أن إدارة المسألة السياسية مع مواطن فرنسي مسلم على أساس الهوية الدينية يتغافل هويات أخرى له كان ينبغى أن تدار السياسة على أساسها مثل كونه من سكان الضواحي من الفقراء يعانى البطالة من المهمشين.. الخ، ويركز فقط على الهوية الدينية التي لا تعنى كثيرا فى الحق السياسي، وتبلور هوية جديدة، كما أنها أيضا تؤكد الفرضيات والأطروحات التى ترفعها جماعات الإسلام السياسي.
منطقيا المفترض أن تميز بين (مسلمي فرنسا) و(الفرنسيين المسلمين) ولكل مصطلح مدخل مختلف فى التعامل، (الفرنسيون المسلمون) يحتاجون لأطر يؤدون من خلالها طقوسهم الدينية، أما (مسلمي فرنسا) فمدخل آخر يشعر بأننا بإزاء كيان خارجي عملاق له فرع داخل فرنسا، وهذه هي المشكلة، بينما الأولى حتي لو بها مشكلة تظل ضمن كيان الدولة الفرنسية.
* هل تعني أن الحكومة تعزز بذلك خطاب الجماعات الإسلامية، الذي يركز على الاختلاف على أساس الهوية، من حيث أرادت حصاره؟
** هذا بالضبط ما يحدث، جزء كبير من السياسة الرسمية الفرنسية فى التعامل مع مسلميها هو الخوف من علاقات خارجية تربطهم بكيانات تهدد البلاد على مستوى الأفكار والتمويل خاصة تنظيمات الإرهاب والتطرف الإسلامية وكذلك الخوف من أن تؤدى المشكلات الاجتماعية التى تعانيها الجالية المسلمة إلى أن تتطور باتجاه التطرف والإرهاب وهذا خوف خاص بالمسلمين خاصة الشباب منهم، ولكن يجب ألا ننسى أن معظم مشكلات الشباب الفرنسي المسلم هي جزء من مشكلات الشباب الفرنسي الآخرين بالضواحي والأحياء المهمشة التى لا يستطيع الشباب فيها أن يعطى عنوان سكنه لجهة عمل لأنها سترفضه مبدئيا!
* ألم يكن من المفترض أن تقدم الحكومة الفرنسية طرحا مغايرا بعد أحداث سبتمبر يركز على فكرة المواطنة وليس استدعاء اختلاف الهويات ؟
** صحيح ..لكن الذي حدث العكس، الحكومة لا تستطيع التمييز بين العناصر التى تتدخل بالتوتر على الموقف؛ هناك الوضع فى فلسطين وأفغانستان والعراق..أوضاع أحدثت لخبطة حقيقية تحاول الحكومة الخروج منها ولكنها تزيدها تعقيدا حين تحاول حلها والخروج من مأزقها بهذه السياسات، مثلا معالجتها للعلاقات بين اليهود والمسلمين فى فرنسا نموذج لذلك، مثل تركيز وسائل الإعلام على أحداث بعينها قد تبدو مخيفة بحق، مثل الحرائق المتبادلة بين المساجد والمعابد اليهودية، فتضخيم هذه الأحداث وزيادة الإحساس بالخطر كل ذلك يؤدى لعكس المطلوب، وربما إلي أخطر من هذه الأحداث بالفعل.
* وماذا تتوقع لهذه الخطة ؟
** صعب التوقع لكن مهما يحدث أتوقع أن يحدث تطبيع للوجود الإسلامي فى فرنسا، وعملية اندماج المسلمين فى المجتمع الفرنسي فى كل أحوالها أفضل بكثير من إدماج غيرهم على مدار التاريخ الفرنسى.
* وهل تتوقع مثلا أن يزيد خطة تمثيل المسلمين سياسيا من المشاركة السياسية للمسلمين كما هو مرجو؟
** . تمثيل المسلمين سياسيا مشكلة فعلا ولكن وجودهم داخل التمثيل السياسي فى فرنسا مختلف وهو إن كان ضئيلا فى البلديات والإدارات المحلية إلا أنه يتطور، ربما ليس عندي تصور أو توقع مستقبلي لأنه يحتاج لدراسات واسعة ومركبة ولكن هناك نوع من المفارقات، ففي بريطانيا هناك نوع من الأبارتهيد أو التفرقة العنصرية حيث يحصر المسلمون والمهاجرون عموما في تجمعات سكانية بعينها ولا يغرك سيطرتهم على الإدارات المحلية لهذه البلديات فهذا طبيعي بالآليات الديمقراطية حسبا لكثافتهم العددية ولكنه فى النهاية تفرقة عنصرية، فالرسالة التى يقدمها الإنجليز للمهاجرين: أننا لا نريدكم والأفضل تبعا لذلك أن تستقلوا بمقاطعات بعينها، والوجود الإسلامي في هذه الحالة ووجود المهاجرين عموما مرتبط فى بريطانيا بأسباب تاريخية يتعلق بعضها بخضوع بلادهم (مثل الهند وباكستان) للتاج البريطاني فترة وليس وجودا طبيعيا، والرسالة أنكم تنتمون لأسباب تاريخية للجنسية البريطانية، لكن حقيقيا لا نريدكم وطالما أنتم موجودون بالفعل فلكم أحياء خاصة لا تخرجوا عنها،..لهذا طبيعي أن تقوى الهوية وتكون الهوية الدينية ومعاني الفضيلة جزءا من الإمكانات والمؤهلات السياسية فينتخب الأكثر تعبيرا عن الهوية .
لكن فى فرنسا الوضع مختلف فالأحياء عناصرها متنوعة وليس مناطق معزولة، وإذا اخترت أن تبنى وجودك السياسي على هويتك الدينية فيمكن أن تحوز أصوات المتفقين معك فقط وهم قليلون فى ظل حالة التنوع شديدة الثراء، وبالتالي ستخسر سياسيا لذلك لابد أن يقوم مشروعك السياسي على أشياء أخرى غير الهوية الدينية، تجد مثلا الجهات الإسلامية فى الضواحي الفرنسية تشتغل على أشياء أخرى لمكافحة الإدمان والمساعدات المدرسية والاجتماعية وهذا يعطيها مؤهلات سياسية تمكنها من دخول البلدية.
فى النظام الفرنسى كانت كيفية وجود المسلمين وعدم تركزهم فى مناطق محددة عنصرا مساعدا لعدم بروز خطاب الهوية الدينية فى الطرح الإسلامي السياسي وعدم بناء الطرح السياسي على أساس ديني، فتلاحظ مثلا فى الحزب الاشتراكي قسم خاص لتمثيل المسلمين وهناك لجنة اندماج المسلمين، هذه فكرة طيبة تصلح نموذجا لأي نضال من أجل إشراك المسلمين سياسيا وتفعيلهم وهنا نلاحظ أننا أمام إشكاليتين مختلفتين تماما، الأولى نحن بإزاء من يتحدث عن تمثيل المسلمين سياسيا والثانية تفعيل مشاركتهم سياسيا ولا مانع أن تكون بشروطهم .
المستوى الثانى يتعلق أيضا بمقارنة اندماج المسلمين فى المجتمع الفرنسى بتاريخ وحركة غيرهم من المهاجرين فى فرنسا، فقد كان الأفضل كثيرا مقارنة والطليان والبولنديين والبرتغال ..الذين كانت عملية اندماجهم صعبة جدا وعنيفة جدا وبطيئة جدا، وكلنا نسينا ذلك تماما، فى المناطق الصناعية حدثت مآس عند اندماج هؤلاء المهاجرين مع العمال الفرنسيين وشهدت صراعات ومآس حول فرص العمل بين الفرنسيين والأسبان والطليان والبرتغال والبولنديين، إذن المسألة ليست خاصة بالإسلام، فالصراع حدث بين مسيحيين أيضا، نحن الآن وبعد قرون من المعاناة فى الاندماج نتحدث عن سركوزى كوزير للداخلية الفرنسية وننسى، وهو أيضا ينسي أصله البولندى، ولا يوجد فرنسي واحد يتحدث عنه باعتباره بولنديا فهو فرنسى من اسمه ومنصبه وحياته، وكذلك الحال سيحدث نفس الشئ مع محمد وأحمد المسلمين فهذه الصيرورة الطبيعية.
* عودة إلى مسألة الهوية الدينية ألا ترى أن المعالجة الفرنسية نفسها على مستوى الرسمي والإعلامي مسئولة عن تضخم الإحساس بالهوية المسلمة لدى المسلمين الفرنسيين حتى وهى تتحدث عن إدماجهم من خلال قصر الاندماج على الجانب المفترض فيه حق الخصوصية كالشعائر والحجار والمساجد وتغافلها عن الاندماج وحقوق المواطنة فيما يخص المشكلات الاجتماعية التى يعانيها المسلمون هناك كالبطالة المرتفعة بينهم وانعدام الخدمات ....الخ؟
** شكلت هذه جدلية بالفعل، فحينما كنت أدرس اللغة العربية الفصحي منذ 15 عام فى مدرسة ثانوية فى الأحياء الشعبية كان تلاميذ المدرسة من المغاربة كثيرون وقد يصل عددهم إلى أكثر من النصف من المسلمين لدرجة أنهم كانوا يسمون المدرسة" أحمد"!، وكان بالفصل ما بين 10 إلى 15 بنت ولم يكن هناك حجاب ولكن كان غطاء الرأس، كان ذلك فى الثمانينيات ولم يكن هناك اهتمام حول هذا الموضوع من أى جهة من الجهات، ولا أعلم بالتحديد في أي مدرسة من المدارس بدأ المدير يرفض ظهور البنت وهى ترتدي (النقاب)، وفى الحقيقة أنا لا أعلم السبب بالتحديد، لقد أصبحت مشكلة تحتل أولوية اهتمامات الصحف والتليفزيون وكل وسائل الإعلام التي اعتبرتها من مهام الدفاع عن العلمانية، والتي تعد هي الأخري هوية بشكل من الأشكال طبعا، وقد فسر المسلمون في فرنسا الموضوع بتفسيرات مختلفة وفي اتجاهين فمنهم من اعتبره نوعا من التصادم أو الاختلاف مع السلطات الأكاديمية والمدرسية، وهناك من نمى لديهم شعور بتنظيم الناس على أساس ديني أو أصولي ، ومن هذا اليوم أصبح الحجاب مشكلة. ولم يكن الفاعل طرفا واحدا هو –بالضرورة- المسلمون فهناك فعلا عناصر من المجتمع الفرنسى- وليس كله- قرروا أن وجود علامات دينية لا يتماشى مع العلمانية ، وآخرين فهموا أن هذه وسيلة لتنظيم المسلمين دينيا ، فما حدث كان جدلية بالفعل، ولم يكن ممكنا طرح قضية هذه العلامات أو الطقوس والرموز الإسلامية بشكل عادي جدا مثل أي زى آخر له دلالات ثقافية أو دينية دون أن تؤدى إلى معركة، وربما كان من الممكن أن يتم استيعابها دون إثارة مشاكل فى الثمانينات ولكن لم يحدث ربما بسبب وجود مشاكل وظروف متوترة مثل تلك التي كانت على الجبهة الإسرائيلية العربية وقتها وكذلك الحركات الإسلامية التي كانت في فترة مد قصوي شهدت أيضا تحول هذه الرموز الدينية إلى رموز سياسية أيضا.
* بعيد عن هواجس الهوية التي تقلقك، كيف يتسني للمسلم عموما أن يظل محتفظا بهويته كمسلم دون إثارة هذه المعارك؟ فما القلق من طرح تعريف الهوية علي أساس الإسلام؟ مع ملاحظة أن هناك أفكار اندماجية داخل الإسلام نفسه ؟
**حين نتكلم عن الدين فانا لا مع ولا ضد، تكويني الفلسفي والسياسي ماركسي الى حد كبير بمعني ان الطبقات ما زالت حاضرة، وكذلك المصالح الاجتماعية والاقتصادية ، لذا اعتقد أن الانتماء الديني أو انتماء الهوية قد يكون غطاء علي حقائق أخري اجتماعية واقتصادية مهمة بل وأتصور أن المبالغة في استدعاء خطاب الهوية خاصة في نقاشات حول قضايا اجتماعية واقتصادية محاولة للهروب من الواقع غير الملائم ، وتهميش شباب الضواحي أيا كان دينه، مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، يلجؤه إلي خطاب الهوية إذا نظرنا إلي المجتمع الأمريكي نجد أنه مبنى على الوجود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للأفراد الذي يمر عن طريق الانتماء الأثني الثقافي، أي أن هناك أمريكي من أصل أفريقي أو من أصل عربي أو من أصل أسيوى، أي أن الوجود فى الإطار السياسي لن يخرج عن المجتمع الذى أنت عضو فيه أي أن الأصول هي المحدد والتوصيف فى المجتمع يتم علي طبقات كهذا فهناك طبقات عند الأمريكان من أصل أسيوى أو من الجنوب الأمريكي ، كذلك اللغة فهناك اللغة أسبانية فهذه كلها أشياء تحدد الطبقة فأنت تلعب على مستويين ، على مستوى المجتمعي الأمريكي ككل وعلى مستوى المجتمع الأصلي الذي تنتمى إليه.
أن تبني هويتك السياسية في فرنسا علي انتمائك الديني والأثني فسيؤدي إلي الانغلاق، إذن الحل الوحيد فى المجتمع الفرنسى هو الخروج على الانتماء الديني ، ليس بشكل مطلق كما أن الاستثناء ليس خاصا بالطقوس فقط بالطبع، ولكن لأن الانتماء الديني علي الطريقة الفرنسية لا وجود له في بعض الحقول الاجتماعية كالسياسية.
زمان كنا نقول أن " لوران فابيوس" لا يمكن ان يكون رئيسا للوزراء لأنه يهودي! لكن ما حدث تاريخيا فى المجتمع الفرنسى هو انصهار للانتماءات الأثنية والدينية التى أدت إلى تناسي أن هذا من أصل يهودي أو مسلم أو غيره فالمجتمع السياسي لم يبنى على ذلك، وأتصور أنه إذا استمر الإسلاميين على ذلك فهم يهمشون أنفسهم بأنفسهم.
* علي ذكر هذا هل تري أحداث 11 سبتمبر فى أمريكا أشعلت حرب الهوية فصار معها إعلان الهوية الإسلامية شيء أساسي، علي الأقل في دولة كأمريكا بها 6 مليون مسلم أو يزيد؟
** هذا صحيح فعلا وهو شيء فظيع، فما حدث أشعل حرب الهوية وأتصور أن المسئولية مشتركة، وبوش وبن لادن وجهان لعملة واحدة، وأعتقد أن مسئوليتنا كمثقفين هي محاولة تخفيف هذا الوضع، والخطورة الأساسية أن المصالح الحقيقية وراء ما حدث ويحدث من وقتها نعرفها جيد، فهي ليس لها علاقة بالدين وإنما بالبترول وبفرض السيطرة الأمريكية على النظام العالمى، وما حدث لا علاقة له بالحرب علي بن لادن وإرهابه، فأكثر الذين كانوا يرفضون سيطرة بن لادن ونفوذه هم جماعات الإسلام السياسي ، لأن بن لادن كان يحاول تحريض وإثارة المجتمعات الإسلامية ضد منظماتهم ، لإجبار هذه الجماعات على التضامن معه والانضمام تحت جبهته لقتال اليهود والصليبيين وهو ما عارضته معظم هذه الجماعات، مثل الإخوان المسلمين والعدل والإحسان وغيرها، وهذا ما كان ينبغي علينا إبرازه حتي تتضح الأهداف الحقيقية لكن هذا لم يحدث بكل أسف
* وهل تعتقد أن أحداث 11 سبتمبر وتداعياته ساعدت في تأخر مسألة معالجة قضايا مسلمي أوربا وإدماجهم في المجتمع الأوربي؟
** أتصور ذلك،للأسف، وهذا خطر كبير، وإن كنت أري أن هناك مثقفون مسلمون لديهم وعي بالمشكلة ويحاولون تقديم طروحات أكثر وضوحا وعقلانية فيما يخص مسألة الاندماج لكن المشكلة أن التعامل الإعلامي معهم غير جيد ويعتمد أسلوب الإثارة
* أتصور أن أفكار الإندماج موجودة فعلا وفي أكثر من بلد أوربي، مثل الإسلام في إطار مبادئ الجمهورية في فرنسا والإسلام البرتقالي في هولندا..وغيرها، ولكن المشكلة تبدو في افتقاد أصحاب هذا الطرح لثقة التجمعات الإسلامية التي تنظر إليه باعتباره تنفيذ لمخططات مشبوهة،السؤال هو: لماذا لا توجد فعالية لهذه الأفكار ومصداقية لأصحابها ؟ هل السبب في النفوذ القوى لأفكار الحركات الإسلامية الرافضة للإندماج أم أن "موضة" الهوية عالمية ؟
** نعم هي موضة الهوية، كما أن نوعية الكتب الدينية المعادية للاندماج تجسد نوع من الهوية مثل التركيز علي أن المسلمة لا يمكن أن تكون مسلمة من غير ارتداء الحجاب ، فهذا يساعد على إثارة الخوف لدي كل الأطراف، خاصة المدافعين عن سياسة العلمانية فى المدارس الفرنسية وإن كنت أتفق مع الرأي بأن هذه السياسة تبدو غير معتدلة حين تركز على الحجاب وتنسى الكاب اليهودي مثلا. وأتصور أن هناك رصيد كبير لدي كل الأطراف يبعث علي تأخير الاندماج.
* بالرغم من العلمانية المفترضة فى فرنسا نستشعر أن المقولات الفرنسية تستبطن نوعا من الشعور الديني كمعيار سياسى مثل رفض إعلان الرئيس الأسبق جيسكار ديستان رفضه لفكرة انضمام تركيا للاتحاد الأوربي باعتباره ناد مسيحي ؟
** لا.. لا.. هناك مستويان من التعامل، الأول المستوى الشعبي الذي يمكن أن نسمع فيه من يقول أن أوربا ذات قيم وعقيدة وتقاليد مسيحي، أما المستوى السياسي فيقول أن أوربا تقوم على فكرة جيو سياسة لذلك لابد أن تحدد مشروعا ، فمثلا من الصعب أن تنضم روسيا لهذا الكيان السياسي لأن لها تاريخ غير أوربي تماما بالرغم من سهولة انضمامها، ونفس الشئ قد يكون بالنسبة لتركيا ، أنا مع دخول تركيا إلى أوربا ولكننى لست متأكدا من أنني على حق ليس لأنها إسلامية ولكن لاعتبارات تاريخية ، فتركيا كانت مركز حضاري للخلافة الإسلامية ، كما تبدو فكرة أن لها حدودا مشتركة مع العراق وإيران صعبة إلى حد ما، وفكرة توسيع أوربا بلا حدود تذيب فكرة المشروع الأوروبي ذاته، كما أن فكرة أن الأمريكان هم الذين يدفعون بقوة عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي تثير بعض الشكوك لأنهم لا يريدون قيام مشروع جيو سياسي.
* وما تصورك للمشروع الأوروبي؟
** هو باختصار رفض الهيمنة الأمريكية علي العالم.. انا كل يوم يزداد شعوري الرافض تماما لهذه الهيمنة.
* وهل فكرة المشروع الأوروبي بهذا التصور واضحة فى عقول السياسيين الأوربيين كما هى واضحة فى ذهنك ؟ أتصور أن أوربا لا تبعد عن أمريكا كثيرا علي الأقل من المنظور السياسي؟
** على مستوى الشارع الأوروبي أشعر أن هناك رأى يتكون ضد الهيمنة الأمريكية كذلك يوجد هذا الشعور عند السياسيين ولكن هناك اعتبارات المصالح الأمريكية الأوروبية التي تؤكد – في رأيي- مبدأ التناقض بين المشروع الأوروبى وعلاقته بأمريكا.
* إذن المشروع الأوروبى كما هو واضح مصلحي بالأساس ومجرد من سؤال الهوية الثقافية، إذا ما تجاوزناها عند الفرنسيين مثلا ورفضهم هيمنة أمريكا الثقافية، وتنويعات أقل لدول أخري علي النغمة الفرنسية!
** بناء أوربا موحدة أيدلوجيا صعب وليس بالسهولة التي قد يظنها البعض ، المشروع الأوربي فعلا مصالحي لكن يمكن أن نتكلم عن جوانب اتفاق مشتركة حتي بين الدول التي كان بينها ميراث عريض من العداء والحروب مثل فرنسا وألمانيا وفرنسا وانجلترا فحتى هذا الماضي الطويل من الحروب وهذا التاريخ العدائي يمكن أن نجمعه ونتخيل مستقبل مبنى على كيان اسمه أوربا، أنا لا أتكلم مثلا عن إحساس بأن هناك تقارب كبير جدا مع بلد مثل بولندا أو استونيا بسبب روابط ليست فقط مصالحية ولكن من ضمنها رابط اللغة الفرنسية التي كانت لغة النخب فيها مثلا؛ وإنما أتكلم عن إرادة وخيال سياسي أيضا يجعلنا نفكر في جعل أوربا موحدة، اليورو هذا الساحر مثلا هو نموذج لهذه الإرادة والخيال، لاحظ- مثلا- رد فعل الأجانب الأوربيين من غير السويسريين حين لا يمكنهم أن يتعاملوا مع اليورو، أنهم يشعرون وكأنهم في المريخ! وأتخيل أن هذا ينطبق علي انجلترا أيضا.
* وهل تأسست الأرضية التي تجعل البعد الثقافي حاضرا فى المشروع الأوروبي في ظل تنوع كبير بين دوله؛ علي المستوي اللغوي مثلا؟
** في طريقه، فمثلا إذا كنت هولندي أو سويدي أو حتى ألماني فإنك تحتاج إلى انفتاح ثقافي لغوى؛ لأنك إذا لم تستطيع التحدث بغير الهولندية أو الألمانية إذا فأنت تتكلم مع نفسك، فمستوى التعرف على اللغات مثلا فى بلد كهولندا شئ مدهش فالهولنديون يعرفون الإنجليزية والألمانية وأحيانا الفرنسية إلي جانب لغتهم الأصلية. وهذا دليل علي تطور ونضج الأرضية الثقافية للمشروع الأوربي
* وهل تتوقع أن تحل الإنجليزية مسألة التناقضات اللغوية وتصير العملة اللغوية لأوربا الموحدة؟
**أنا مع الرأي القائل بأنه إذا تم ذلك فإن الخاسر الأكبر في هذه العملية هو اللغة الإنجليزية، لأن كل شعب سيستخدمها علي طريقته الخاصة حتي تذهب أصالتها وشخصيتها المستقلة، والشيء نفسه يمكن أن ينطبق علي الفرنسية!.
الحياة اللندنية