صعود وأفول التيار الإصلاحي في الإخوان
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تصاعد الجدل مجددا حول جماعة الإخوان المسلمين بعد "التسريبات" الإعلامية التي أكدت اتجاه الجماعة لحذف المادتين المثيرتين للجدل من المسودة النهائية لبرنامج حزبها السياسي، بعدما تسببا في أقوى حملة نقد ضدها بين النخبة الثقافية والسياسية المصرية، وكانت المادة الأولى تقضي بتشكيل هيئة لكبار العلماء تبدي الرأي في التشريعات، وفيما ترفض الثانية ترشح المرأة والأقباط لمنصب رئيس الجمهورية .
ويبدو الجدل مفهوما ومتوقعا خاصة أنه يتصل بنقاط شائكة في التصور السياسي لجماعة بوزن الإخوان مازالت محل اهتمام المراقبين وقلق قطاعات من الشارع المصري بعدما تصدرت واجهة المشهد السياسي كقوة المعارضة الأولى للنظام؛ لكن الأهمية القصوى لعودة النقاش حول البرنامج السياسي للإخوان يجب أن تتوجه ليس لما تم بشأن التعديلات المنتظرة أو المزمعة خاصة بعد أن تراجع الاهتمام بالبرنامج كثيرا ولم يعد محل اهتمام داخل الإخوان، بقدر ما يتصل بالتدافع المحتدم داخل الجماعة بين تيارات وخطابات مختلفة يؤدي عدم الانسجام بينها إلى هذه التناقضات التي تظهر الجماعة مرة كما لو كانت حزبا سياسيا حديثا وتعود بها مرات إلى ذلك الشكل التقليدي للجماعة الإسلامية الشمولية.
فجماعة الإخوان المسلمين مازالت مكونا مختلفا يصعب فهمه ومن ثم هضمه داخل المشهد السياسي المصري، فهي من ناحية هيكلها التنظيمي جماعة أكبر من الحزب ولكن دون الدولة، وهي في بنيتها الفكرية وتوجهها السياسي أقرب لجبهة أو مظلة جامعة لتيارات إسلامية مختلفة في الفكر السياسي منها إلى تنظيم سياسي محدد المشروع والبرنامج، وبداخلها تعددية تجمع فيها تيارات من تخوم السلفية المحافظة إلى حدود الليبرالية المتدينة، وهي على اختلافها قادرة على التعايش بينها وقابلة به يجمعها جميعا القبول بالعمل التنظيمي الواحد والقبول بمبدأ التغيير السلمي التدريجي، وبين هذا التنوع يمكننا الحديث عن تيارين يقتسمان الجماعة: الأول تيار العمل العام ( المنفتح أو الإصلاحي) الذي تكون في فضاء العمل الطلابي والنقابي والسياسي المفتوح، وهو المعروف بالتيار ( الإصلاحي)، والثاني هو تيار العمل التنظيمي الذي يدير البناء التنظيمي للجماعة ويمسك بمفاصلها وهو تيار يوصف ب(المحافظ).
وقد بدأ سعي الجماعة لصياغة برنامجها السياسي الأخير ( سبقت مشروعات برامج لأحزاب أخرى ) مع النجاح الكبير الذي أحرزته في انتخابات 2005 والتي فازت فيها بنحو عشرين بالمائة من مقاعد البرلمان، وكان سعيها الذي بلغ حد التسرع في إحكام الصياغة النهائية للبرنامج متأثرا بسياق ما بدا وكأنه حالة انفتاح عام في المشهد السياسي المصري بدأت في ربيع 2005 مع ما عرف ب"ربيع القاهرة"، وقتها داعب عقل الإخوان السياسي "خيال" أن مشهد الانفتاح قد يؤشر على إمكانية تأكيد وجودهم السياسي وإضفاء الشرعية عليه من خلال الترخيص لهم بحزب سياسي، وهو ما يفرض عليهم الدفع بكل ما من شأنه أن يحقق هذا الحلم أو يجعل منه أمرا من مقتضيات هذا الانفتاح وشروطه ليس للرأي العام الداخلي فقط بل والرأي العام الدولي الذي كان وقتها ضاغطا في اتجاه الإصلاح وفرضه على دول المنطقة، ومن ثم كانت الفرصة مواتية لأن ينشط التيار الإصلاحي في الجماعة (تيار العمل العام) ويستعيد قوته التي كان قد فقد كثيرا منها في فترة الجمود السياسي التي طالت قرابة عشر سنوات ( تقريبا من أول محاكمات عسكرية 1995 وإلى أهم انتخابات برلمانية 2005)، كما كانت فرصته لإعلان كل أفكاره والسياسية دفعة واحدة والجهر بها إجمالا وليس بطريقة الاجتزاء والتسريب.
لقد ألقى الإصلاحيون وقتها بكل ما لديهم، فتكلموا عن القبول بالتحول من جماعة عالمية شاملة إلى حزب سياسي وطني حتى لو استلزم ذلك القطع من الصلات والأدوار الدولية التي طالما أثارت حساسية الدولة المصرية، وأعلنوا قبولا قاطعا بالديمقراطية وما يترتب عليها من رقابة مجتمعية على الجماعة، وقبلوا بالمواطنة أساسا للحقوق السياسية بما يضمن مبدأ تساوي المرأة وغير المسلم في كل الحقوق السياسية بما فيها رئاسة الجمهورية، بل وتجاوز الأمر الشأن الداخلي لتقديم تطمينات في القضايا الدولية المؤثرة ومنها الاتفاقات الدولية المتعلقة بوضع "إسرائيل" إحدى أهم قضايا الخلاف بين الإسلاميين والقوى الدولية.
في هذا "الربيع" كان ثمة مناخ مواتٍ لحراك سياسي يسمح بالتمدد للخطاب الإصلاحي داخل الإخوان، بل كان ثمة "طلب" واسع عليه، فوسائل الإعلام كانت تجد في هذا الخطاب ما يلبي حاجتها إلى الجاذبية والتشويق بل والإثارة التي تخلقها صورة الانقلاب الديمقراطي الكبير في جماعة إسلامية عتيدة، أما الميديا الغربية ومؤسساتها البحثية وما أطلقته من جيوش الصحفيين والباحثين في مصر والمنطقة عموما فكانت بإزاء مشهد "غرائبي" فريد يتحول فيه الإسلاميون من معسكر أعداء الديمقراطية إلى معسكر أشد أنصارها والمطالبين بها، وكان من أبرز المشاهد غرائبية أن يعلن إسلامي ظل ينعت دائما بالتشدد قبوله برئيس غير مسلم لمصر إذا جاءت به الديمقراطية فيما أحجم الآخرون حتى من التيارات الليبرالية والتقدمية على الإعلان عن هذا من قبل!
وكانت الساحة السياسية مؤهلة بل وبانتظار خطاب مختلف للإخوان يتناغم مع حمي التغيير التي اجتاحت البلاد والعباد فبدت مصر وقتها على موعد مع تغيير لن يترك فيها حجر على حجر ولو كانت حجارة الأهرامات الخالدة! فكانت لحظة صعود نادرة للتيار الإصلاحي في الإخوان عززت مواقعه داخل الحياة السياسية المصرية وزادت من أسهم المراهنين عليه والمعولين على صعوده خارجيا، وغلّت عنه- وهذا الأهم- يد تيار المحافظين (تيار العمل التنظيمي) في الجماعة فمنعته من التعرض له أو الوقوف ضده، وهو ما استجاب له الأخير مضطرا حينا وبإرادته معظم الأحيان؛ فالطلب المحلي والعالمي متوجه لهذا الخطاب الإصلاحي، وهو يكسب للجماعة مناطق نفوذ جديدة وجمهورا كان بعيدا عنها تقليديا، كما نجح في تبييض وجه الإخوان في قضايا ظلت دائما نقطة ضعف مزمنة للجماعة الحريصة في كل الأحوال على بناء صورة إيجابية عنها، وأغرى تيار المحافظين التنظيميين بالسكوت أن بإمكانه أن يتحكم في مسار الأفكار الإصلاحية فيصدرّها للخارج الذي يبحث عنها وهو موقن أنها لن تنزل إلى قواعد التنظيم الذي يتحكم المحافظون في مفاصله الرئيسية وأقنية التكوين والتثقيف داخله!
لكن سرعان ما عادت الأمور إلى قديمها: هدأت حمى التغيير، وتبدلت الرياح الدولية التي كانت مواتية، وظهرت الدولة المصرية "العتيدة" القادرة على امتصاص أقوى الضغوط وضبط الواقع وفق ما تراه مصلحتها ...وانكسرت موجة التفاؤل التي كانت تقود شراع التيار الإصلاحي في الإخوان وربما في المشهد السياسي برمته.
كانت البداية مع التعديلات الدستورية التي حسمت بوضوح خيار استبعاد الإخوان من الشرعية بل ومن الحضور السياسي مستقبلا، ثم جاءت انتخابات التجديد في مجلس الشورى إشارة إلى المنع التام لفكرة تكرار سيناريو مجلس الشعب، ثم كانت الانتخابات المحلية رسالة نهائية بأن لا مكان للإخوان في المشهد السياسي..وكان استمرار الاعتقالات والمحاكمات العسكرية والحملات الإعلامية عزفا للحن نفسه ولكن بتنويعات مختلفة.
كان هذا التبدل إيذانا باستعادة التيار المحافظ ( التنظيمي) في الجماعة لزمام المبادرة وإعادة الإصلاحيين إلى المربع الأول! لقد أدى الإصلاحيون دورهم وفق الحدود المسموح بها وغطّوا الطلب الذي كان على الإصلاح، لكن الطلب تراجع، والساحة لم تعد تتسع لمزيد من الأقوال الإصلاحية، والرموز التنظيمية المحافظة لم يعد بإمكانها السكوت على ما كانت ترى فيه خروجا على خط الجماعة ومشروعها!
كانت عودة التيار التنظيمي المحافظ تدريجية ولكن حاسمة: في البداية تم التعميم على كل قواعد الجماعة بأن كل المقولات "الإصلاحية" التي ملئت فضاء ربيع القاهرة المنصرم كانت- في أفضل الأحوال- مجرد اجتهادات لأصحابها غير معتمدة من الجماعة وأن الجماعة ستدرسها وتبت فيها لاحقا، ثم قيل أنها آراء شخصية وأن أصحابها لم يرجعوا فيها للجماعة، ثم قيل أنها تمثلهم وحدهم ولا تعبر عن الجماعة..وتواصلت متوالية نقض المقولات والأفكار التي أطلقها الإصلاحيون عروة عروة حتى اكتملت عملية نزع الشرعية عن التيار الإصلاحي في النهاية.
كان نزع الشرعية يتم في الأغلب داخل الأطر التنظيمية للجماعة وكان ظهوره للفضاء العام نادرا ومحسوبا، فقليل من الأفكار التجديدية لا يضر، بل ربما ينفع في بناء صورة إيجابية للجماعة طالما تم حصره خارج التنظيم!
لم يكن بإمكان التيار الإصلاحي مقاومة عملية نزع الشرعية عنه، فهي كانت تتم بهدوء ودون ضجيج، ولم يكن بالإمكان مواجهتها علانية دون التسبب في أزمة أو انشقاق تنظيمي، فكان الرد بالسعي لتأكيدها باستمرار في الفضاء العام عبر الميديا واللقاءات والندوات والحسم بأنها الكلمة الأخيرة للإخوان في العمل السياسي.
لكن جاءت الصياغة النهائية للبرنامج السياسي (2007) لتكشف أن القرار النهائي -عند المحك وفي المراحل المفصلية- هو بيد تيار التنظيم المحافظ، وأن هذا التيار حتى وإن لم يكن بإمكانه بناء مشروع أو برنامج سياسي للجماعة فإنه من غير الممكن بناء هذا البرنامج بمعزل عنه ودون إرادته أو على غير قناعاته.
المراقب على التطورات التي واكبت صياغة البرنامج والأجواء التي أحاطت بها يتأكد له أن الصياغات الأولى كانت لا توحي بما انتهي إليه وأنها في مجملها كانت تعبر عن التوجهات العامة لتيار العمل العام الإصلاحي، لكن وفي اللحظات النهائية تدخل التيار التنظيمي المحافظ ليضع ملاحظاته النهائية التي وإن تمثلت في مادتين فقط؛ فقد كانت كافية لتخرج بالبرنامج كاملة عن مساره الذي أريد له وعن روحه التي كانت أقرب لتيار العمل العام.
كانت هذه الضربة الأقوى والعلانية للتيار الإصلاحي طاحت بمشروعه تماما لتدخل الجماعة نفق العودة إلى ما قبل ربيع القاهرة حيث أجواء الخوف وسوء الظن التي كانت تحكم علاقة النخبة السياسية والفكرية المصرية بها إضافة إلى فزع المراقبين الغربيين، فكان أهم تحول في مسار الرهان على القوى الإصلاحية داخل الإخوان، ثم جاءت الضربة الثانية ولكن داخليا هذه المرة في أول انتخابات داخلية في منتصف العام الماضي 2008؛ فقد ظهرت نتائج عملية العزل الممنهج ونزع الشرعية التي استمرت طوال ثلاثة أعوام كاملة، وتمثلت في انكسار الأصوات الإصلاحية لحساب التيار التنظيمي ورموزه الذين تصدروا انتخابات مجلس الشورى والتي كان من نتائجها من تصعيد خمس أعضاء جدد لمكتب الإرشاد كانوا جميعا من التيار التنظيمي المحافظ!
الوضع الحالي في جماعة الإخوان، وباختصار، يرجح أن البرنامج السياسي الآن هو قيد التجميد وليس فيه أي جديد، وأن الحديث عن تغيير ربما فيه مبالغة، وأن المؤكد أن أي حراك في قضية البرنامج مؤجل لأجل غير مسمي، فالمشهد السياسي إلى انغلاق تام في وجه الجماعة، والتيار الإصلاحي في أضعف لحظاته داخل الجماعة، ومن ثم فكل شيء في طريقة للتجميد لحين انفتاح منتظر سيكون مرهونا بالأغلب بتغيير مرتقب في مجمل المشهد السياسي.
إن الوضع القائم لا يغري بتحريك ملف البرنامج السياسي، وأي تعديل فيه حتى في المادتين الشهيرتين سيكون جزءا من التحريك الإعلامي الذي يحاول من خلاله التيار الإصلاحي التأكيد على وجوده أكثر منه تحريكا سياسيا يستهدف التحرك لنيل شرعية قانونية ظلت محجوبة عن الجماعة التي يناضل من أجل أن ترتدي يوما رداء الشرعية القانونية في حزب سياسي.