منتدي الحكمة".. وصل ما انقطع بين الفكري والسياسي
لم يعد ممكنا إنجاز مشروع حضاري بمعزل عن تجميد الطاقات الفكرية المبدعة؛ فالمؤسسة السياسية تظل مشلولة وعاجزة عن التأثير الفعلي ما لم تتوفر على مشاريع عمل ولأجل هذا استضافت مدينة وجدة الحدودية الصحراوية ندوة دولية بعنوان "إشكالية العلاقة بين الفكري والسياسي: مقاربات متعددة" للبحث عن سبيل لاستيعاب التناقضات الداخلية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من أجل مساعدتها في الخروج من الحلقة المفرغة.
الندوة نظمها منتدى الحكمة للباحثين والمفكرين الذي يرأسه الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن وذلك بالتعاون مع جامعة محمد الأول بوجدة وشغلت مناقشاتها يومي الأربعاء والخميس 16 و17 آذار (مارس) 2005، وقد حاولت المداخلات والمناقشات الإجابة عن أسئلة تتعلق بما إذا كان بالإمكان إعادة بناء الثقة ومد الجسور وإيجاد صيغة توافقية لعمل حضاري مثمر وبناء؟ وإلى أي حد يمكن المراهنة على وعي النخبة العلمية والفكرية وحسها التاريخي في إنجاز مهمة من هذا النوع؟".
مفكرون وباحثون مغاربة وعرب قدموا مقاربات متعددة للإجابة عن هذه الأسئلة كان في مقدمتهم المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري والمفكر الفلسطيني المرموق منير شفيق والأكاديمي المصري البارز سيف الدين عبد الفتاح، ومن خارج المغرب أيضا شارك الصحفي والباحث المصري حسام تمام المحرر الثقافي لموقع "إسلام أون لاين.نت" والباحث السوري الطبيب طارق أبو غزالة الذي مشروعه الموسوم: "التفكير الموضوعي"، ومن المغرب شارك أعضاء "منتدى الحكمة"، وفي مقدمتهم عبد المجيد الصغير ورجاء ناجي مكاوي وعبد الحميد يويو، ومحمد أمزيان ومصطفى المرابط وخالد حاجي.. وحضر الندوة عدد من الباحثين المغاربة مثل سمير بودينار ورابح مغرواي وفاطمة عبد اللاوي.. وكان في مقدمة الحضور الشيخ العالم مصطفي بن حمزة رئيس المجلس العلمي لوجدة والدكتور محمد الفارسي رئيس جامعة محمد الأول والدكتور العربي لمرابط عميد كلية الحقوق بالجامعة والدكتور سعيد الحسن أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس ومدير مركز خالد الحسن للدراسات والأبحاث.
"منتدي الحكمة".. وصل ما انقطع بين الفكري والسياسي
حسام تمام: الإسلاميون وغلبة الوعظ والسياسة على كل ما هو فكري ومعرفي!
"الفكري والسياسي في الحركة الإسلامية" هو عنوان مداخلة الصحفي والباحث المصري حسام تمام اعتمد فيها مقاربة تاريخية، وذلك من خلال الاهتمام بالحركة الإسلامية، وبالاشتغال على الحالة المصرية تحديدًا.
يرى المحاضر أن سنة 1947 جسدت العام الذي شهدنا فيه ظهور أول "جماعة فكرية" داخل الحركة الإسلامية في مصر. كانت الحركة تسير بسرعة سمحت لها في غضون 20 عامًا أن تتخلل شتى طبقات ومناحي الحياة في مصر، وكانت تحت إدارة الإمام الشهيد حسن البنا الذي يصفه تمام بأنه جسد دور "المفكر اللوجيستي" الذي لا يقوم بإنتاج الأفكار بقدر ما يعطيها قدرة تشغيلية، وذلك من خلال تنظيم سياسي محكم وقوي. في هذه الفترة كانت الحركة الإسلامية ذات نشاط سياسي بشكل جعلها أكبر قوة سياسية صاعدة.
تفطنت مجموعة من شباب الجماعة مبكرًا إلى أن جسم الحركة يتمدد بقوة لا توازيها تمدد على المستوى الفكري والمعرفي. وكانت النتيجة أن اتفق هؤلاء مع الإمام حسن البنا على تكوين ما سُمِّي بـ"جماعة المشروع"، وكان هؤلاء مجموعة من الشباب الجامعي اتفقوا على "مشروع" يروم سد الضعف الفكري والثقافي داخل الحركة.
تزامنت هذه الأحداث مع حملة اعتقالات طالت معظم أفراد جماعة "المشروع"، حيث تفرق دم الشباب بين حكومة السلطة وحكومة الإخوان، وذلك في عز الصدام المشهور بين الإخوان والثورة، ثم تجمع هؤلاء الشباب فيما بعد في ملتقاهم الذي تجسد في مجلة "المسلم المعاصر"، وهي التي تلخص مسار وتاريخ أول جماعة فكرية في الحركة، ولكنها جاءت بعد أن قدّم سيد قطب وهو من يعتبره حسام تمام "المفكر الأول والوحيد" للحركة مشروعه الفكري الذي سيطر على الحركة قبل أن يتحول مسارها في السنوات الأخيرة حتي يكاد يفارق معالم المشروع الأساسي الذي وضعه قطب.
نحن في حقبة السبعينيات، حيث عودة "الإخوان" للعمل السياسي بعد أن كانت أسيرة مشروع قطب، ولكن مقابل سيادة تشرذم وتشظي في الرؤية الفكرية، مرده، حسب المحاضر، إلى تنوع وتعدد المصادر الفكرية التي اعتمدت عليها الجماعة في السبعينيات دون أن تكون هناك رؤية كاملة يمكن أن تسمى طرحًا فكريًّا للحركة أو أن تتوفر على "Think Tank" أو رافد فكري يوازي قدرة الحركة على الانتشار والحضور في الفضاء العام والعمل السياسي.
في هذه الفترة، لم نَعُد نتحدث عن وجود مفكرين داخل الحركة، حتى صار الملمح الأساسي للحركة أنها طاردة للمفكرين، وأن هؤلاء إما من الخارج أو في طريقهم إلى الخروج. وبالمقابل وفيما يشبه ترقيع هذا الإشكال الفكراني الحرج؛ ولأن التوسع الكبير للإخوان كان لا بد له من مدد فكري أو إيجاد مخارج فكرية للممارسة، فقد كان الدور الهام الذي قامت ثلة من المفكرين القادمين من اليسار، نذكر منهم طارق البشري، ومحمد عمارة، وعبد الوهاب المسيري.. أي من النخبة التي اصطلح على تعريفهم فيما بعد بـ"الإسلاميين المستقلين".
وإجمالاً، لا يستقيم الحديث عن وجود فكري داخل الحركة الإسلامية المصرية بقدر ما نتحدث عن حركة تلجأ إلى الاستعارات ما بين أكثر من طرح فكري لمفكرين إسلاميين، وإن كان طرحهم الفكري لا يستطيع أن يسكن بهدوء واتساق مع المشروع الذي تطرحه الحركة، حتى نصل في الأخير إلى ما يشبه تجميع أكثر من اجتهاد فكري لمفكرين من خلفيات ومشاريع مختلفة. ثم إننا لم نَعُد نتحدث عن الاهتمام بالمشروع الفكري أو رؤية فكرية شاملة بقدر ما يتعلق الأمر بالاهتمام بما يصطلح عليه المحاضر بـ"الأفكار التشغيلية" والتي تستعمل لتحركات قصيرة المدى ومحدودة، وخادمة لحركة سياسية تفتقد لبوصلة التوجيه.
ومن الأمثلة التطبيقية على مأزق ركوب قيادات وأبناء "الإخوان" على منظومة "الأفكار التشغيلية"، وقوف بعض الشباب المفكر على فكرة أو أفكار متناثرة قد تكون غربية أو مصدرها واحد من هؤلاء المفكرين الإسلاميين المستقلين، ثم الاشتغال على تطويرها في صورة أقرب للمفكر الترجمان أو المفكر الشارح، وغالبًا ما تساهم "أفكاره" هذه في التشظي الذي يطال الحركة الإسلامية، بحيث تطرح الأفكار دون سياق فكري ينتظمها جميعًا، ودون معرفة بالسياق العالمي وموازين القوى بتعبير منير شفيق.
وقد استشهد المحاضر في هذا الصدد بالتعاطي الإسلامي مع فكرة "المجتمع المدني"، فقد أصبح الاشتغال الكثيف للإسلاميين المصريين على هذا الموضوع أحد أدوات ترسيخ حركة العولمة في مصر، فهو يأتي في سياق انسحاب سريع ومنظم للدولة من أهم واجباتها استجابة لمشروع أمريكي عولمي في المنطقة يقوم على اقتصاد سوق حرة، وخصخصة، وإعادة هيكلة للمجتمع، تروم تجاهل مصالح الفقراء والمستضعفين والمهمشين.